شعار قسم مدونات

الإنسان ما بين الغيب والميتافيزيقا (1)

blogs - الغيب

يقول الفيلسوف توماس رايد "أنه ملاحظ تاريخيا، أن الإنسان عندما تعرض عليه قضية خبرية، فهو يميل للتصديق". ولكن ما الفرق بين أن نؤمن-بتنبؤات شعب المايا حول حتمية حدوث بعض الكوارث الطبيعية وانهيار المجرات الكونية وحساباتهم الرياضية الدقيقة لنهاية الكون، وبين أن نصدق بتنبؤات هيئات الأرصاد الجوية أن يوم الاثنين القادم مثلا سيكون ممطرا؟ وما الفرق بين إيمان الإنسان بوجود الحياة الأخرى وبين إيمان العصر الحديث أن الكائنات الحية لها أصل مشترك وأنها تطورت من طور إلى آخر؟ أو ما الفرق بين إيمان طالب جامعي بوجود جسيمات فيزيائية لا ترى بالعين المجردة ولا حتى بالمناظير تسمى إليكترونات وبروتونات، وبين إيمان إنسان بوجود أرواح طيبة وشريرة تحيط بحياة البشر؟

إن اللغة قد تختزن في ظلها أحيانا الإشارة للمفارقات المعرفية، فتشير إلى الحياة الثقافية المتباينة للعقول الفلسفية كالعقل الديني والفلسفي أو العلمي الحديث، ولكنها أحيانا كثيرة تكون مجال متساوي/متماثل بين البشر، فعندما يتحدثون عن "الإيمان"، "الدليل"، "الشك"، "اليقين"، "المعرفة"، "العقل"، فهنا تكون اللغة مضللة اذ أن كل كلمة لا توجد في الفكر إلا منتمية لفضاء ومجال وعصر معرفي بعينه! الإيمان بالغيب لا يعني سوى ذات قضية الإيمان الأولى والتأسيسية وهي الإيمان بوجود الخالق، وما دونها من القضايا لا تتجزأ من هذه القضية. لذلك تقريظ الوحي للذين يؤمنون بالغيب هو ليس مدح لطريق المعرفة أو القضية المعرفية الجزئية، بل لقضية الوجود الأولى، "الله". 

"المؤمن" يمارس إيمانه معرفيا عن طريق المعرفة بالخبر، فهو يثق بصدق المخبر المقدس الذي يخبره عما لا يراه أو ما يغيب عن شهوده من موجودات أو حوادث أو مصيره الوجودي، وعن ماذا تريد منه السماء وماذا تعني حياته وإلى ماذا سيقود مماته

هذه التساؤلات تثبت شبها واختلافا بين الغيب والميتافيزيقا، فهي تصور الإمكان المتساوي والمتمثل في قدرة الإنسان على ارتباطه بقضايا غائبة عن شهوده وإحساسه! وفي ذات الوقت تشير إلى انطلاق من منظومة معرفية مختلفة تماما! ما بين الغيب والميتافيزيقا تكمن الدلالة الواضحة على وعي معرفي متباين والذي يحدد ماهية الإنسان بين العصور! إن كان الإنسان يحدد ويعرف بعرقه وثقافته ونشاط عمله ولغته، فهو من المنظور المعرفي الفلسفي يعرف بانتمائه لعصر أو آخر وإعماله لمنظومة معرفية دون أخرى! " في هذا العصر الذي قد تمتزج فيه اللغات والأعراق والثقافات، تظل المعرفة هي المحدد الأميز لهوية الإنسان في هذا العصر. 

عندما يعتقد إنسان بوجود الأرواح الشريرة والمخلوقات غير المرئية كالملائكة والشياطين، فهذا لا يحدد وحده منظومة معرفية معينة (فقد يؤمن إنسان بوجود الأرواح الشريرة لأن هناك دليل حسي ملموس مثل رؤيته لها، أو أنه رصد ذبذبات فيزيائية باستخدام جهاز رصد حديث). ما يحدد هو الطريق المعرفي الذي يعتمده في المعرفة. الإيمان الديني يعتمد على الخبر أو الشهادة testimony، فهنا "الدليل" هو اخبار من يعتقد بقداسته وصلته بأخبار السماء وارتباطه بالمطلق. "المؤمن" يمارس إيمانه معرفيا عن طريق المعرفة بالخبر، فهو يثق بصدق المخبر المقدس الذي يخبره عما لا يراه أو ما يغيب عن شهوده من موجودات أو حوادث أو مصيره الوجودي، وعن ماذا تريد منه السماء وماذا تعني حياته وإلى ماذا سيقود مماته. إن المعرفة بالخبر، أو "الإيمان بالغيب" لا يرتكز إلى أي تأسيس معرفي من طريق آخر مثل العقل والعلم لأن الأخبار "الدينية" نفسها تقبع فيما وراء المشهود والمعقول وتعارضه أحيانا، فليس هناك مسلك متاح للمؤمن معرفيا للتحقق من حقيقة الخبر إلا من ذات المنظومة. 

الإيمان بالغيب بمعناه المعرفي ليس حصرا على الدين، بل لا أعتقد أن هناك إنسان لا يؤمن "بغيب" من "الغيوب". فمنذ القدم كتب أرسطو طاليس عما أسماه الفلسفة الأولى، ويعني بها الميتافيزيقة أو ما وراء الطبيعة، وهي تأملات نظرية تجريدية لا تستند للبحث التجريبي أو العلمي، بل على النظر التجريدي حول ماهية الحقيقة وطبيعة الحقيقة نفسها. ومن أهم ما يخصص الميتافيزيقا عن غيرها هي صفة العمومية "Generality"، بعكس الفلسفات التجزيئية التي تبحث في أصل الإنسان أو الكون أو نشوء الحياة. وكانت الميتافيزيقا تقليد فلسفي راسخ منذ اليونانيين وحتى ضمورها مع صعود الوضعية المنطقية. ليس هناك أدنى حدود لحجم القضايا في الاعتقادات بما وراء الطبيعة، فقد كان يؤمن أرسطو بوجود "المحرك الأول" والذي هو السبب في وجود الحوادث مثل الأجسام والكون والحياة. إذا ما الفرق بين هذه "القضية" وبين "الإيمان بالخالق" من منظومة الدين؟ إنه العقل المعرفي الذي يؤسس لذات القضية! 

كيف كان سيكون الأدب فقيرا ومعدما بدون الإيمان بالغيب وكيف كان سيكون مصير الإنسان وهو محدود معرفيا ووجوديا بين عالم المادة المشهود!

إن محاولة المتدينين لتصوير اللادينيين على أنهم لا يؤمنون إلا بالمشهود في عالم المادة يعد تزييفا شنيعا للحقيقة. لأن الإنسان المعاصر في ظل الحداثة المعرفية، حتى وإن لم يكن يؤمن "بالغيب بمفهومه الديني"، فهذا لا يعني أنه مادي ولا يعتبر إلا بعالم المادة المشهود، فهو يؤمن بالظواهر المفارقة للمادية emergent phenomena، حتى إن كثير من الفلاسفة اللادينيين، لا يعتقدون أن الوعي أو العقل ظاهرة كيميائية/ فيزيائية خالصة في عالم "المشهود"! بل هو من المادة ولكنه مجاوز لها. فالوعي ظاهرة إنسانية لا يمكن تفسيرها وفهمها على ضوء قوانين الفيزياء/ الكيمياء المشهودة، بل يقول الكثير من الفلاسفة أن كثير الظواهر المنبثقة من المادة، كتلك المرتبطة بالوعي consciousness لا يمكن فهمها بقوانين المادة وحدها! وعلى سبيل المثال، وقد كتب الكثير من الفلاسفة كالفيلسوف الأمريكي (توماس ناجل)، لتوضيح خاصية ظاهرة الوعي وملكة الفكر عند الإنسان، وصعوبة اختزال تطورها وفهمها بالميكانيزمات المادية وحدها! 

وعندما يقول درويش: "أنا وأنتَ على طريق الله‏ صوفيّان محكومان بالرؤيا ولا يريان"، فهو هنا بالكلية لا يتحدث عن المشهود، بل عن "الغيب"، ويعبر برشاقة عن احتمالات فلسفية تختلج في صدره عن الله والموت، ويشير كذلك إلى "الغيب" "والنظر" بالرؤية وهي هنا فكرة صوفية أساسية مدارها العرفانية التي يعتبرها المتصوفة مصدر معرفي حقيقي. ولكم أن تتصوروا كيف كان سيكون الأدب فقيرا ومعدما بدون الإيمان بالغيب وكيف كان سيكون مصير الإنسان وهو محدود معرفيا ووجوديا بين عالم المادة المشهود!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.