شعار قسم مدونات

علم نفس التدين (1).. متى يكون التدين مرضا نفسيا؟

blogs - islam

ألمس ملفا شائكا ربما يتحرج البعض من التعرض له.. ولكني رأيت أن رفع الحرج يكون بمواجهة هذا الأمر وليس بتجنبه لأن المدافعين عن الدين والملتزمين به هم أولى الناس بالحفاوة بطرح هذا الأمر بوضوح وصراحة حتى ينقى التدين الصحيح مما يشوبه من جراء اختلاط الأمر عند الناس بين مظاهر التدين الصحيح وبين بعض المظاهر المرضية والتي تأخذ صورة التدين والتي قد تغيب عن الجمهور العادي الذي ليس لديه معلومات دينية صحيحة أو معلومات نفسية صحيحة.. والمظلوم في الحالتين هو التدين والمتدينون. لذا فإنني سأقوم بعرض كل الأمراض أو المشكلات النفسية التي لها أعراض دينية أو بعض المظاهر الدينية التي تكون تعبيرا عن أمراض نفسية ولكن لا يشعر صاحبها أو المحيطون به بذلك:

 

1- الوسواس القهري ذو الأعراض الدينية: 

مرض الوسواس القهري مرض نفسي تسيطر فيه فكرة غير صحيحة على عقل المريض وهو يعلم أنها غير صحيحة ويحاول مقاومتها ولكنه لا يستطيع ويصيبه ذلك بالتوتر والاكتئاب. وقد يكون الوسواس القهري عبارة عن أفكار قهرية فقط وقد يكون أفكار قهرية تصاحبها أفعال قهرية. وللوسواس القهري أنواع متعددة من حيث مضمون الوسواس ولكن ما سنشرحه هو الوسواس القهري ذو الأعراض الدينية بصوره وأشكاله المختلفة حتى يتسنى للمرضى وأهلهم التعرف عليه لطلب العلاج: 

 

الشخص الذي يسب الذاتب الإلهية مريض وإسلامه لم يمس ولم يكفر بالطبع، وهذه الأفكار هي وساوس قهرية نتيجة لتغير في كيمياء المخ تحتاج إلى العلاج الدوائي والنفسي السلوكي والمعرفي.

أ‌- وسواس الطهارة والوضوء: وهو أشهر أنواع الوسواس الديني حيث يطيل المريض في مدة الوضوء أو مدة الاغتسال فربما دخل المريض ليتوضأ لصلاة المغرب فيخرج بعد صلاة العشاء تحت دعوى إسباغ الوضوء وهو في الحقيقة يكرر الوضوء عدة مرات لفكرة مسيطرة عليه أن الماء لم يصل جيدا إلى الأعضاء المختلفة. ويتكرر الأمر مع آخرين في الاغتسال.. فيكرر غسل الأعضاء المختلفة خاصة الأعضاء التناسلية ويزداد الأمر سوءاً عند بعض الإناث بعد الدورة الشهرية حيث يفرطون في غسلها تصورا لوجود دم غير واضح أو إفرازات لم يصل لها ماء الاغتسال. وهناك أيضا من يكرر الوضوء لإحساسه بخروج الريح (الغازات) بشكل متكرر سواء قبل الصلاة أو أثنائها فهو يتوضأ مرة واحدة بشكل طبيعي ولكنه يكرر لتصوره تكرار الحدث. وهناك من يطيل في الاستنجاء (غسل الدبر بعد قضاء الحاجة) وربما امتد تواجده داخل دورة المياه لدرجة تؤدي إلى أزمة لشركائه في السكن لطول الفترة التي يقضيها في دورة المياه.

 

وهناك الشعور بنزول الإفرازات عند الفتيات والذي يؤدي بهم لتكرار الاغتسال والوضوء والحقيقة أن الفهم الصحيح لما يستحق الاغتسال عند المرأة وما يستحق الوضوء هو البداية السليمة للعلاج فالفتاة والمرأة تحتاج للاغتسال عند الوصول للذروة ونزول ما يسمى بماء المرأة وعدا ذلك فان ما ينزل من افرازات أثناء الاثارة لا يستوجب الاغتسال بل يجزئ فيه غسل المهبل بالماء ثم الوضوء للصلاة وإفرازات الاثارة فقط هي ما يستحق ذلك أما غيرها فهي إفرازات عادية عند بعض الفتيات. ويقابل ذلك عند الأولاد الذكور الشعور بنزول منى أو الاحتلام أثناء النوم أو خروج المذي ومعه يكرر النظر الى ملابسه الداخلية أو يكرر الاغتسال دون سبب حقيقي.

 

ب‌- وسواس سب الذات الإلهية أو الرسول: وهو شعور الفرد بأنه يسب الله أو الرسول أو يقول كلمات الكفر مما يجعله يشعر بالتوتر الشديد ويظل يكرر في بعض الأحيان شهادة أن لا إله إلا الله على اعتبار أنه بذلك يدخل الإسلام من جديد بعد كفره وربما ذهب البعض الى الاغتسال ثم قراءة الشهادة كصورة من صور الدخول في الإسلام وهذا الشخص بالطبع مريض وإسلامه لم يمس ولم يكفر بالطبع وهذه الأفكار هي وساوس قهرية نتيجة لتغير في كيمياء المخ تحتاج إلى العلاج الدوائي والنفسي السلوكي والمعرفي.

 

جـ – وسواس أسئلة التشكيك في العقيدة: وهنا تطرأ على ذهن الشخص المريض أسئلة لا متناهية حول الله ووجوده وطبيعته ومن خلقه وعن حقيقة كون الإسلام هو الدين الحق وأسئلة حول الأنبياء والملائكة واليوم الآخر.. والمريض يحاول الإجابة على الأسئلة من خلال قراءة كتب العقيدة أو سؤال المشايخ حول هذه القضايا متخيلا أنها مشكلة عقائدية ستحل بالحصول على الاجابات الصحيحة وهو لا يدري أنه كلما حصل على إجابات زادت الاسئلة وتشعبت وانتقلت إلى نقاط جديدة.

 

د – وسواس النية: وهو يتكرر مع كل العبادات بدء من الوضوء ومرورا بالدخول في الصلاة والصيام.. فتأتيه الفكرة أن نيته لم تنعقد بصورة صحيحة ويظل واقفا أمام ماء الوضوء أو في بداية الصلاة في حالة معاناة شديدة تمنعه من بداية الوضوء أو بداية الصلاة لأنه يشعر أن وضوءه سيبطل أو صلاته لأن نيته لم تنعقد بصورة سليمة.

 

قلقنا من الموت لا بد أن يكون قلقا إنتاجيا يحفز على العمل والاستعداد بالعمل الصالح، ويجب ألا يعطلنا عن ممارسة أنشطتنا الطبيعية أو علاقاتنا الاجتماعية أو نظرتنا وتخطيطنا للمستقبل.

هـ – وسواس التأكيد على ألفاظ التكبير والدعاء: وهنا يشعر المريض أنه لم يقل الكلمة بالشكل المطلوب فهو عندما يكبر للصلاة مثلا يكرر التكبير لأنه ليس متيقنا أنه قد كبر بالفعل وهكذا عند قراءة الفاتحة أو سور القرآن ويمتد عند البعض عند قراءة الأذكار فهو يضغط على الحروف والكلمات ويبرزها ويوضحها شعورا منه بأنه بغير ذلك لا تصبح الأذكار مقبولة.. وقد يصل الأمر ببعضهم في الأنواع السابقة من الوسواس إلى وقف الصلاة لما يشعرونه من جهد ومعاناة في الدخول للصلاة أو قراءة القرآن أو الأذكار.

 

و- وسواس تحويل الدعاء والقرآن إلى سب: وهو يشبه وسواس سب الذات الإلهية ولكنه مرتبط بقراءة القران أو الأذكار حيث يتحول كل مرور على اسم الجلالة إلى سب أو كل دعوة للخير أو عمل المعروف إلى كفر، وبالطبع يضيق المريض في هذه الحالة من قراءة القرآن أو سماعه ويتجنبه قراءة وسماعا لما يسببه هذا السب المرتبط بقراءة القرآن وسماعه من توتر واضطراب.

 

2- قلق الموت أو الخوف من الموت:

بما يصنفه البعض كجزء مما يسمى بطيف الوسواس ولكنه يختلف عن الوسواس القهري في الدرجة ففي هذه الحالة يرتبط الأمر بحدوث حالة وفاة لأحد الأقرباء وحضور اللحظات الأخيرة في حياة هذا الشخص أو معرفة تفاصيل المرض الذى ارتبط بحدوث الوفاة، فيبدأ المريض في حالة قلق وخوف من الموت فالبعض يقلق من لحظة خروج الروح والبعض يقلق مما سيترتب على الموت من نتائج، فتجد الأم تفكر في أطفالها وكيف سيعيشون بعد وفاتها ومن سيرعاهم، والبعض يتوقف عن ممارسة أنشطته العادية انتظارا للموت والآخر يفسر كل حدث عادي على أنه نذير بقرب الموت فهو إن حضر حفلة فهي آخر الحفلات وإن رأى زميلا لم يره منذ زمن فلأنه لن يراه بعد ذلك، والبعض يفكر في ذنوبه وأخطائه ويكثر من الصلاة والعبادات وقد يتفرغ لها تماما استعدادا للموت.. وكلما أكل أو شرب أو جاءه خبر مفرح أو نظر لأولاده أو حقق نجاحا في العمل شعر أنه لا قيمة لذلك فالموت قادم وقد يحدد بعضهم موعدا لحدوث هذا الموت..

 

ومن التأثيرات الجديدة لحدوث هذا الخوف سماع الأشرطة المسجلة التي تتحدث عن عذاب القبر أو اللحظات الأخيرة للموت بصورة مكثفة في التركيز على النذير والتخويف أو ما أسميه بالخطاب غير المتوازن الذي يركز على الخوف بدون أن يتوازن الأمر بالرجاء في رحمة الله.. وقد ناظرت حالات كثيرة في الفترة الاخيرة نتيجة لهذا الخطاب الغير متوازن.. والفيصل في الخوف الطبيعي أو القلق العادي من الموت هو أننا كبشر طبيعيون نتعايش مع فكرة الموت وحتى إذا قلقنا فيكون ذلك قلقا إنتاجيا يحفز على العمل والاستعداد بالعمل الصالح ولا يعطل الإنسان عن ممارسة أنشطته الطبيعية أو علاقاته الاجتماعية أو نظرته وتخطيطه للمستقبل..

 

فمع حضور فكرة الموت في أذهاننا فهذا لا يمنعنا من ممارسة حياتنا الطبيعية وحتى إذا تذكرنا الموت كما وجهنا الرسول لذكر هادم اللذات فهذا يكون في إطار كبح الطموحات الزائدة والارتباط المفرط بالدنيا وتجد ذكر الموت ذو أثر إيجابي على حياة الناس.. فالقلق الطبيعي يكون حافزا لإعمار الأرض.. للعمل قبل أن يداهمنا الموت.. للاستعداد الإيجابي وليس بالهروب السلبي أو التوقف عن الانشطة أو التفكير في المستقبل. إذن فالخوف المرضي من الموت أو قلق الموت المرضي لا يعبر عن نقص في إيمان الشخص ولكنه نتيجة للتعرض لضغط نفسي يحدث تغير في كيمياء المخ تجعل الشخص مريضا بهذا النوع من القلق ويحتاج للعلاج النفسي والدوائي.

 

3- الإحساس بالذنب كأحد أعراض الاكتئاب:

يقسم الله عز وجل في القران الكريم بالنفس اللوامة وبالتالي فإن ثقافة لوم النفس أو محاسبة النفس هي أحد مكونات الشخصية التي يتم امتداحها لكونها تحاسب نفسها قبل أن تحاسب.. ولذا فإن الشعور بالذنب كأحد أعراض الاكتئاب الهامة خاصة إذا كان لهذا الشعور جذر ديني؛ بمعنى أن يكون سبب الشعور بالذنب هو الإحساس بالتقصير في العبادات أو في حقوق الله.. هو من الأعراض التي تختلط على كثير من المرضى وتؤدي إلى زيادة معاناتهم، فهو يرى أن عجزه عن أداء الصلاة أو عدم رغبته في أدائها أو القيام بالنوافل التي اعتاد على القيام بها علامة على غضب الله عز وجل عليه فهو لم يخسر الدنيا فقط بإحساسه بالعجز عن أداء أنشطته الدنيوية بل هو أيضا سيخسر الآخرة بسوء علاقته بالله فيزداد شعوره بالذنب فيزداد شعوره بالاكتئاب ويزداد عجزه بصوره عامة وعن أداء الواجبات الدينية بصورة خاصة وهكذا يستمر دورانه في الدائرة المغلقة..

 

حرمة الانتحار من منطلق ديني مثلا يعتبر أحد العوامل الهامة في إحجام كثير من المكتئبين الذين لديهم أفكار انتحارية في الإقدام على الانتحار.

وما أقوله لمرضاي في هذه الحالة.. أنك بسبب الاكتئاب تفقد أداءك لكافة مهامك الحياتية فأنت لا ترغب في الذهاب إلى العمل أو الدراسة وأنت لا تقوم بواجباتك الاجتماعية نحو أهلك أو زملائك وأنت تفقد الشعور بأي طعم للحياة.. وبالتالي فإن عجزك عن أداء أنشطتك الدينية هو جزء من فقدانك لكل نشاطك.. وبالتالي فلا داعي لتخصيص الأنشطة الدينية بشعور خاص بالذنب.. لأنك عندما تشفى من الاكتئاب وتستعيد قدرتك على أداء الانشطة المختلفة سيكون من ضمنها قدرتك على معاودة أنشطتك الدينية فستعود رغبتك للصلاة وغيرها من العبادة وقدرتك على أدائها..

 

النقطة الثانية التي تجعل الإحساس بالذنب أسوأ عند المتدينين هي فكرة أن المتدين لا يمرض نفسيا واعتبار الشعور بالاكتئاب نوع من ضعف الإيمان؛ فيزداد الإحساس بالذنب سوءاً ولا ندري من أين أتته فكرة أن المتدين لا يمرض بالمرض النفسي خاصة مع اكتشاف أن تغيرات في كيمياء المخ تكون هي السبب في الأمراض النفسية وهي تغيرات تحدث لكل البشر على اختلاف أجناسهم وأديانهم مثل مرض السكري حيث لا يوجد سبب يجعله يصيب المتدينين أو غير المتدينين فهو مرض متعلق بنقص الأنسولين وبالتالي فالجميع يصاب به ويكون دور التدين في العلاج المعرفي حيث يكون المتدين أكثر قبولا لتغيير أفكاره ويكون الرضا بقضاء الله والاستعانة بالله أحد الروافد الهامة.

 

وتكون حرمة الانتحار من منطلق ديني مثلا أحد العوامل الهامة في إحجام كثير من المكتئبين الذين لديهم أفكار انتحارية في الإقدام على الانتحار.. أي أننا يجب أن نفرق بين الدين كعامل مساعد في العلاج وبين فكرة أن المرض النفسي سببه ضعف في الإيمان.. لأن المحيطين بالمريض النفسي يزيدون الضغط عليه عندما يتحدثون معه على أساس أن أعراضه سببها ضعف الإيمان ويدعونه إلى المزيد من التقرب إلى الله في وقت هو فاقد للرغبة وللقدرة على ذلك بسبب مرضه وليس بسبب ضعف إيمانه وعندما يجد كل من حوله يجمعون على ذلك.. يزداد شعوره بالذنب وتزداد أعراضه سوءا، ولذا تجد أن الكثير من المكتئبين تكون أول جملهم عند الحضور للطبيب النفسي هي "لا أدرى ماذا حدث لي بالرغم أنني أصلي وأصوم وأقرأ القران".. وكأنه يدفع عن نفسه تهمة ضعف الإيمان التي يتهمه بها كل من حوله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.