شعار قسم مدونات

ربع قرن من العزلة

blogs - jail

أعلنت أسماء عبد الرحمن عن وفاة والدها الشيخ الدكتور عمر عبد الرحمن في زنزانته الانفرادية بأمريكا، بعد صراع طويل مع المرض ومكابدة مضنية لظلمة السجن وظلم السجان، لقد تجاوزت قضية الشيخ الأزهري المحكوم بالمؤبد حدود عائلته وجماعته التي كان أمير لها، والتيار الجهادي الذي شيد بنيانه على أطروحات الشيخ العلمية، لتغدو قضية إنسانية تفاعل مع تفاصيلها المؤثرة عدد من الشخصيات والمؤسسات الحقوقية في مصر والعالم.

لم يكن الشيخ عمر عبد الرحمن سوى معارض أزهري للدكتاتوريات التي تعاقبت على حكم مصر، حيث رفض بكل شراسة إسبال الشرعية الدينية على أي منها، متكئا على خلفيته الأزهرية المتوجة بأعلى الدرجات العلمية (الدكتوراة). لكن قدره أن يموت مريضا وحيدا ضريرا في زنزانة انفرادية باردة في بلد الحقوق الحريات. تنتفي هذه المفارقة إذا عرفنا أن الشيخ قضى نحبه في زنزانة من أراد تأبيد تلك الدكتاتوريات ورعاها لعقود بالسلاح والمعونات.

عمر عبد الرحمن لم يكن مجرما ولا قاتلا، كان صاحب فكر ودعوة وابن أعرق المعاهد الإسلامية في العالم، مشكلته مع الأنظمة العسكرية التي حكمت وطنه ومن يقف معها دعما وتمويلا. كان شيخا طاعنا في السن ضريرا تنهش الأسقام جسده، لديه رؤيته وتصوره لما ينبغي أن يكون عليه بلده وخلف تراثا فكريا ودعويا ما انفك تلاميذه ينشرونه بين الناس. لماذا لا يحضرون الشيخ إلى مناظرة علنية يناقشه فيها كبار العلماء والمفكرين، ولا شك أن أمريكا تستطيع تأمين هؤلاء الشيوخ والمفكرين؛ وكم سيكون مفيدا لو استطاع هؤلاء دحض أطروحات الشيخ وتبيين زيفها وتهافتها.

أصحاب الفكر والقلم لا يُقتلون، لأن ذلك سيكون أعظم خدمة تقدم لأفكارهم وأقلامهم، ففي اللحظة التي يتهاوى فيها المفكر من منصة الإعدام تُصك شهادة الميلاد الأبدية لأفكاره. وتعب كلماته من إكسير الخلود. قُتل سقراط في القرن الرابع قبل الميلاد، وامتد الزمن بفلسفته إلى يومنا هذا، أعدم سيد قطب فأعادت أفكاره صياغة العالم وغيرت مجرى التاريخ، ألم يحذرهم من قبل حين قال:" إن كلماتنا ستبقى ميتةً لا حراك فيها هامدةً أعراساً من الشموع، فإذا متنا من أجلها انتفضت و عاشت بين الأحياء ، كل كلمة قد عاشت كانت قد اقتاتت قلب إنسان حي فعاشت بين الأحياء، و الأحياء لا يتبنون الأموات "، ولم تزد أمريكا على أن أضافت إلى الأسفار الخالدة كتاب" موقف الإسلام من خصومه" وهو الكتاب الذي حوى خلاصة أفكار الشيخ ونظرياته في التغيير والدعوة.
 

إنها لحظة ميلاد أخرى لهذه الروح المتمردة، واستئناف لدعوته وإحياء لفكرته. لقد ظفر مستضعفو هذا العالم بوجه أيقوني جديد، يبرزونه في مظاهراتهم وفعالياتهم المناهضة للعدوان والرافضة للاستبداد

تعدت قصة الشيخ عمر عبد الرحمن أبعادها المادية والواقعية، فهي تجسيد رمزي لأمة منهكة محاصرة؛ مؤمنة بحقها في الوجود والحرية، مستميتة في الدفاع عن مكانتها ومركزية حضارتها ورسالتها.

استنكرنا مشاهد الذبح والإعدام التي تنفذها داعش ضد الصحفيين والرعايا الأجانب، واعتبرنا ذلك ضربا من ضروب العدوان والطغيان، وبنفس الحدة نستنكر ذبح شيخ ضرير بسكين العزلة والإهمال. تفتخر أمريكا بأنها أقوى بلد في العالم وجحافلها وأساطيلها منتشرة على امتداد الكرة الأرضية، ويحكمها نظام سياسي عتيد، وترسانة دعائية عملاقة تقصف العقول على مدار الساعة والدقيقة؛ فما هو التهديد الذي يمكن أن يشكله عجوز ضرير لهذه المنظومة المرعبة، إلى الدرجة التي يوضع فيها بزنزانة انفرادية في عزلة تامة لربع قرن من الزمان. أم أن نظام القيم الذي يقوم عليه بنيان هذه المنظومة، لن يصمد طويلا مادامت دعوة عمر عبد الرحمن سارية بين الناس، واقترافها للظلم والعدوان لن يطول وأفكار الشيخ الثورية منتشرة بين مضطهدي العالم ومستضعفيه.

لقد أنصفت الثورة المصرية الشيخ عمر عبد الرحمن، عندما تعهد الرئيس محمد مرسي في أول خطاب له بعد تنصيبه رئيسا لمصر بالسعي لإطلاق سراح الشيخ وإعادته إلى أهله، لكن الانقلاب العسكري باغت الرئيس مرسي وقضى على آمال عودة الشيخ الأزهري إلى بلده لينعم بالحرية التي ناجز في سبيلها ثلاثة أنظمة عسكرية. ليس منة من الثورة أن تنصف الشيخ عمر، فهو الذي عاند الأنظمة المستبد وحشد للثورة عليها، وجردها من الشرعية الدينية التي ما انفكت تتمسح بها، في الوقت الذي اصطف فيه أدعياء النضال والثورة من القوميين والليبراليين في طوابير طويلة انتظارا لدورهم في تقديم فروض الولاء والطاعة.

لعل أكثر ما يزعج خصوم الدكتور عمر عبد الرحمن هي تلك العمامة الأزهرية، التي تنتصب كالتاج فوق هامته، إنهم لا يريدون أن يكون لهذه المدرسة العريقة (الأزهر) دور في معركة الحرية والاستقلال، ويخشون أن تنحاز إلى معسكر الشعب والأمة، وبالتالي فهم يريدون تحويل الأزهر إلى مجمع كنسي يُصدر صكوك الغفران وقرارات الحرمان بناء على توصيات السلطة الحاكمة؛ لا يتدخل في شؤون السياسية إلا بالقدر الذي يعزز مكانة السلطان وتُحفظ به مصالحة ومصالح حاشيته وذريته. لكن عمر عبد الرحمن تمرد على وصاية النظام والسلطة، ورفض أن يُساق ضمن القطيع بعصا الراتب والمنح إلى حظيرة الطاعة، على أن يُستدعى في المآتم والأعراس لتقديم وصلات وعظية مدفوعة الأجر. لقد أعاد عمر عبد الرحمن الهيبة للأزهر؛ تلك القلعة الشامخة، وأكد على دورها الريادي في نهضة الأمة وتحرر شعوبها.

عاد جثمان الشيخ عمر عبد الرحمن إلى بلده، وخرج في جنازته جمع غفير من الناس، وتداول رواد شبكة الانترنت كتبه ومحاضراته ووصيته الأخيرة التي طالب فيها بالثأر لدمه، وخرجت بيانات التعزية من جماعات وحركات وشخصيات من مختلف ألوان الطيف الإسلامي، إنها لحظة ميلاد أخرى لهذه الروح المتمردة، واستئناف لدعوته وإحياء لفكرته. لقد ظفر مستضعفو هذا العالم بوجه أيقوني جديد، يبرزونه في مظاهراتهم وفعالياتهم المناهضة للعدوان والرافضة للاستبداد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.