شعار قسم مدونات

السيرة النبوية في منمنمات عثمانية

blogs - متحف إسطنبول
كما كان للعثمانيين دولة كبيرة أدارت أراض في ثلاث قارات وامتد حُكمها إلى ستة قرون من الزمان، فإن لهم إرثًا فنيًا ثريًا يوازي المدة التي مكثوا فيها على عرش الحكم طوال هذه القرون، فقد ورثوا عن أسلافهم في الدول الإسلامية ومن أعدائهم في الإمبراطوريات الأوروبية تقاليدا وأعرافا ثقافية وفنية وصقلوها وأخرجوا لنا ألوانا جديدة هي مزيج من هذه الحضارات الكبيرة، فأخذوا عن التيموريين والسلاجقة والأتابكة والمماليك في مصر والشام، وعن البيزنطيين وممالك دول البلقان، فاتسمت فنونهم بالديمومة بسبب هذا المزيج من العناصر الإسلامية والأوروبية من جانب، وتشجيع الدولة ودعمها الدائم المستمر للحركات الفنية من جانب آخر.

ولقد شكل أرباب الحرف الذين يعملون في القصر العثماني أساس الفنون العثمانية التي وصلتنا إلى الآن، فقد شكلوا طوائف منتظمين في تشكيلات ومجموعات ضمت المئات من الحرفيين في رسم الخط ورسم المنمنمات وصنع التحف، وذلك في بدايات الأمر إذ انضم إليهم لاحقًا حرفيين من مواطن بعيدة من هرات، وتبريز، ودمشق، وبغداد، والقاهرة، وكذلك من البوسنة، والمجر، وإيطاليا، والنمسا، حتى وصل العدد إلى أكثر من ألفي شخص في أوائل القرن السابع عشر، فكانوا يعملون بجانب الفنانين المحليين حتى تم وضع السمة والشخصية المميزة للفن العثماني مع مرور القرون.

الفنون العثمانية والسيرة النبوية:
وللصورة الفنية المعروفة باسم "المنمنمات" تاريخ كبير في العهد العثماني، حتى أنهم تفردوا بإنتاج سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمنمنمات، وللنبي مكانة خاصة في التاريخ العثماني وفي قلوب سلاطين آل عثمان، وتعتبر عملية إنتاج سيرته ضمن مجموعة صور فنية هي واحدة من نتاج هذا الحب والتقدير الكبيرين، فالمجموعة التي نتحدث عنها هنا تسمى بمجموعة "سير النبي" وهي مجموعة مثَّلت أضخم عمل فني في تاريخ الفنون الإسلامية في العالم الإسلامي قديمًا، ويُعتقد أنه تم إنتاجها في القرن السادس عشر بين العامين 1594 و 1595 بأمر من السلطان العثماني مراد الثالث (1574-1595) حفيد السلطان "سليمان القانوني".

للسلطان مراد الثالث ولع بحب الصور والأعمال الفنية وكانت فترة حكمه من الفترات الغنية بالمنمنمات إذا ما قورنت بالفترات الأخرى السابقة واللاحقة، إذ وصل عدد المنمنمات التي وصلتنا من عهده 2839 منمنمة.

أتت هذه المجموعة في ست مجلدات بعدد تجاوز 800 صورة فنية (منمنمة) تُصَور فيها حياة النبي وسيرته من قَبل ميلاده حتى الممات (مع ملاحظة أن وجه النبي وكبار الصحابة لم تحدد في هذه الصور)، فنراه وهو في غار حراء، ونراه وسيدنا جبريل قادمًا إليه حاملًا خبر نبوته وختم الرسالة، ونراه ومعجزة نبع الماء تفيض من بين أصابعه الشريفة، ونراه وهو يزوج ابنته فاطمة الزهراء إلى سيدنا علي -رضي الله عنه-، مع وجود بعض الصور الأخرى كواحدة تصور نبي الله آدم -عليه السلام-، وإلقاء أبو الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- في النار.

أما هذا العمل الفني فنجد مجلداته مبعثرة في ثلاث مكتبات حول العالم، فالمجلد الأول والثاني والسادس في متحف "طوب قابى" بإسطنبول، والرابع في مكتبة "تشيستر بيتي" بمدينة دبلن بإيرلندا، أما المجلد الثالث والأخير فيقع ضمن مجموعة "سبنسر" بمكتبة نيويورك العامة بالولايات المتحدة، ويعد المجلد الخامس في عداد المفقود، وفيه حسب تقدير الباحثين ما لا يقل عن 200 لوحة، ولا نعلم بدقة من الذي قام برسم هذه الصور كلها؛ إلا أن الأقرب للصواب أن بعض الأسماء من رسامي البلاط العثماني قد قاموا بهذا العمل مثل "حسن باشا النقاش"، و"لطفي عبد الله"، وآخر يُدعى "عثمان".

كتاب مصطفى الضرير في السيرة النبوية مصدرًا للصور الفنية:
قبل الحديث عن الكتاب الذي تم اعتماده لرسم هذه الصور لابد من الوقوف قليلًا عند السلطان مراد الثالث وإرجاع سبب رسم هذا العمل الفني إليه، إذ للسلطان ولع بحب الصور والأعمال الفنية وكانت فترة حكمه من الفترات الغنية بالمنمنمات إذا ما قورنت بالفترات الأخرى السابقة واللاحقة، إذ وصل عدد المنمنمات التي وصلتنا من عهده 2839 منمنمة في فترة العشرين عامًا التي حكم فيها، وقد تمازج حب السلطان للعمل الفني مع حبه للنبي ومقامه الكريم، حب أدى به للأمر برسم سيرة النبي الفنية، ومن قبله بخمسة أعوام جعله يوم "المولد النبوي" يوم احتفال رسمي في القصر السلطاني في عام 996هـ/ 1588-1589، وكان احتفال ديني سياسي واجتماعي، يُخطب فيه عن حياة النبي ومعجزاته ووفاته مع توزيع الهدايا على الشعب من طرف رجال الدولة، وتشبه الاحتفالات التي تتم في عيدي الفطر والأضحى، وقد استمرت هذه الاحتفالات حتى نهايات عهد الدولة في القرن العشرين.

لاقى نص "سير النبي" انتشارًا واسعًا ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر وما زالت المكتبات داخل تركيا وخارجها تحتفظ بنسخ أو أجزاء من نسخ منها بالتركية والفارسية.

تم الاعتماد في رسم هذه الصور الفنية على كتاب في السيرة النبوية عرف باسم "سير النبي" كُتب بواسطة شخص تركي يُدعى "مصطفى بن يوسف بن عُمر المولوي الأرضرومي" المعروف باسم "مصطفى الضرير"، وهو من مؤلفي ومترجمي كتب السير والتواريخ الذين عاشوا في نهايات القرن الرابع عشر، فقد نقل "فتوح الشام" للواقدي إلى التركية وقدمها إلى حاكم حلب فترة حكم السلطان المملوكي "الظاهر سيف الدين برقوق" (وكان يحظى بمكانة مرموقة في قلب الأخير) في العام 1388، كما قام بترجمة سيرة النبي إلى التركية أيضًا بعد كتابتها بالعربية اعتمادًا على سيرة "ابن هشام" في نفس الفترة تقريبا.

وبنظرة قريبة إلى سيرة النبي التي قام مصطفى الضرير بتأليفها نجدها سردا لسيرة النبي بأسلوب فلكلوري شعبي، مع وجود نزعة صوفية قوية وبإظهار واضح لسيدنا "علي" -رضي الله عنه- ودوره في السيرة النبوية، وهو أمر لافت للنظر خاصة وأن الدولة العثمانية دولة سنية المذهب، وتوضيح دور سيدنا "علي" وتفضيله وتعلية مكانته في بعض الصور ربما تخالف ما هو مألوف في البيئة السنية لتدوين السيرة، الأمر الذي ينحو بنا إلى الاستفسار عن قبول السلطان مراد الثالث لهذا العمل، ولعل التفسير المقبول للأمر هو كون هذه السيرة ذات الطابع الصوفي هي ما جعلت السلطان يقبل بها، فهو محب للتصوف والصوفية وقد تتلمذ بنفسه على يد عدد منهم.

لاقى نص "سير النبي" انتشارًا واسعًا ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر وما زالت المكتبات داخل تركيا وخارجها تحتفظ بنسخ أو أجزاء من نسخ منها بالتركية والفارسية، وعلى الرغم من كون منمنمات العمل قد تحتوي على رسومات من السيرة لم يثبت حدوثها، أو قد يتواجد بها بعض التجاوزات التي لا تقبل من البعض، إلا أنها عمل فني متفرد من نوعه بعيدًا عن الرأي الفقهي الذي قد يقبل أو يعارض الفكرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.