شعار قسم مدونات

حلب.. الحرب الموجعة

مدونات، سوريا

حلب لم تكن فاتورة مستحيلة على الإطلاق، بل كانت قسمة مستحيلة حقيقةً، هذه المدينة لا يمكن أن تهدأ وهي منقسمة، كان لا بد أن تعود واحدة بشطريها، تلك المدينة التي خُضنا فيها منذ اليوم الأول للثورة حربًا عبثيةً كبيرة، وكنَّا نظن أننا سننتصر فيها لا محالة، فهم لن يتركوا حلب، ونحن لن نتركها، هكذا كنا نعتقد بصرامة، دون أن نعرف من هم، ومن نحن!! اعتقدنا أن هذه المدينة لن تحتضن سوانا، لن تستطيع أن تستريح إلا فوق صدورنا، وفي أعيينا الحالمة بترابها، ولكنها فعلت، أقصد نحن الذين خذلنا حلب.. خذلنا جميع من ضحى بروحه لكي ترسم الابتسامة على وجه هذه الفاتنة. كان خذلانا صعباً بعد كل هذا الصمود والدماء ولكنه كان درساً كبيراً للتاريخ ولنا، يعاد للمرة الألف، عندما نختلف سنسقط حتى ولو كنا نسيطر على الأرض كلها ومهما بلغت قوتنا.

يا إلهي كم كنَّا أغبياء وسذَّج عندما اعتقدنا أنَّ الملائكة ستحارب إلى جانب الحمقى الذين يفشلون في الإعداد للمعركة! اعتقدنا بغباء استثنائي أنَّنا كنَّا نحرر الأرض ونخوض المعارك ضد الدبابات التي تنسحب خوفاً

حلب.. تلك العروس الجميلة، الهادئة والصاخبة في آن معاً، لم يكتمل زفافها، لقد قتل جميع من كان في تلك الحفلة الهستيرية، وقدمت حلب لمغتصبها كهدية في ليلة العرس على سرير الشهوة للمصالح والمال والحياة الخربة. بين وقت وآخر كنا نحاول أن نقول بخجل: إنَّ هذه الحرب يجب أن تُصحَّح، يجب أن تمتلك مقومات نصرها، ونخاف أن نرفع صوتنا لكيلا نُتَّهم بالعمالة أو الإرجاف أو الجبن، بينما كان ضياع حلب يزداد، كنَّا نحن نراهن على المصادفة التي ستنتشلنا إلى نصرٍ كبيرٍ لأنَّنا أصحاب حقٍ كما ندَّعي، أو لأنَّنا المؤمنون الذين يقاتلون الكفار، أو لأنَّ فينا وبيننا يرقد المظلومون الذين يرفعون أيديهم بالدعاء على الظَلمَة، ولم نتخيل أبداً بأنَّنا الظَلمَة التي ستصيبهم سهام الليل القاتلة.
 
صدَّقنا كذبةً كبيرةً كان يُروَّج لها كالمعجزة بأنَّ نصف المدينة قد حررت ببضعة آلاف طلقة، وبعض البواريد الصدئة، وبعض الرجال الصادقين الذين حاربت الملائكة إلى جانبهم، يا إلهي كم كنَّا أغبياء وسذَّج عندما اعتقدنا أنَّ الملائكة ستحارب إلى جانب الحمقى الذين يفشلون في الإعداد للمعركة! اعتقدنا بغباء استثنائي أنَّنا كنَّا نحرر الأرض ونخوض المعارك ضد الدبابات التي تنسحب خوفاً من بواريدنا المحشوة بطلقات متعفنة انفجرت مرات عديدة بين أيدينا، وكلما كان عدوُّنا ينسحب من منطقة ما، كنَّا نظنُّ أنَّ نصراً إلهياً قد تحقّق على أيدينا، نحن الذين كانت أيديهم تغوص في السَّرقات التي كنَّا نسميها غنائم الحرب، وفي دماء من نتهمهم بالعمالة للنظام، كنَّا أغبياء بما فيه الكفاية لكي لا نقول كفى، ولكي لا نستغرب هذا النصر الإلهي المتناقض مع كلِّ التعاليم التي نؤمن بها كمسلمين.

كنَّا نخاف من الانتقاد ونحن نحارب في سبيل الحرية، ونتبع جميع شيوخ الحرب بطفولية بائسة، فاغرين أفواهنا باستغراب أمام التعاليم الجديدة، التي تسهِّل لنا اقتناص النصر الذي نريده، أو لنقل الذي يشبع بطوننا فقط، وتحمِّلنا أهدافاً لم نكن لنتفق عليها أبداً متجاهلين أهداف ثورتنا أمام مشروع الأمة الكبير كما قالوا لنا يومها، وتشعرنا بنشوة العزة والكرامة المبنية على دماء وأحلام الضعفاء والفقراء الذين صادرنا لهم قرارهم يوم كان لابدَّ أن يسيروا في هذه الثورة مرغمين، وإلا عليهم أن يكونوا مجموعة من الخونة والعملاء والمرتزقة للنظام، الذين يخافون على رواتبهم من الانقطاع ولا يخافون على دماء المسلمين كما كنَّا نصفهم دائماً.
 
نعم لقد كان عادياً جداً ومقنعاً جداً أن تجبر الناس وترغمهم على الحرية، وإلا فهم لا يستحقون الحياة في وطن حرّ، ما زالت الحرية تفرض فيه بالسوط والرصاص، وعلى مقاس المنتصرين، أقصد الحكام الذين يطبقون شرع الله حيثما اتجهت في هذه الأرض. رسمنا الأساطير حول صمودنا العجائبي، وحول انتصاراتنا الوهمية الكثيرة، ونسجنا حكاية الحرية العظيمة التي يطالب بها هذا الشعب العظيم، تلك الحرية التي كنَّا نصادرها مع كلِّ نصرٍ نحققه، فأصحاب النصر فقط هم من يحق لهم الكلام ورسم ملامح الدولة القادمة، والكلُّ عليه أن يكون مطيعاً لدولة الثورة والتغيير والحرية!

انشأنا المحاكم التي يقوم فيها الظُلم مكان العدل، احترفنا المزاودة على الناس، رَثينا الشهداء ونحن من كان يقتلهم حقيقةً عندما أدخلناهم حربنا غير المتكافئة والمليئة بالتخيلات البطولية التي ورثناها عن أفلام الكرتون والمسلسلات التاريخية المتعفنة، ولم نستطع أن ننتصر في معركة حقيقية واحدة، إلا عندما كانت بنادقنا ترتفع تجاه بعضنا، كان النصر لابدَّ أن يكون حليفاً لأحد اللصوص أو الأغبياء أو السُّذَّج الذين يتقاتلون على حكم المدينة الخربة.
 

كلُّ هذه الحدّة في الانتقاد هي دعوة حقيقة لنا جميعاً لكي نراجع أنفسنا وممكناتنا وأهداف ثورتنا الحقيقية في الحرية والعدالة والمحاسبة، دعوة لنُعمِل العقل بعيداً عن العاطفة، دعوة لكي نخطط جيداً لما تبقى بين أيدينا من أرض محررة.

وفي الساعة الحاسمة، تكشفت عوراتنا، وأطعنا ولاة الأمر باستكانة مطلقة، ونفَّذنا ما يريدون منَّا باستسلام غريب، فلقد كانت العصا مشرَّعة أمام من يعصي الأوامر، تلك العصا التي لم نجربها حقيقة، فقد كانت تبتعد عنَّا حيث ما أرادتنا أن نصل، ونبتعد عنها عندما نشعر بسطوتها في أماكن لا يسمح لنا بالوصول إليها. كلُّ هذا لا يعني أبداً أنَّنا لسنا أصحاب حقٍّ، ولا يعني أبداً أنَّ كثيراً من الشرفاء قد ضحوا في سبيل القيم التي نؤمن بها، ولا يعني أنَّنا لم نخض معارك عزة وشرف حقيقية كدنا فيها أن ننتصر لولا أنَّ العالم قد توحَّد ضدنا، وتركنا عرضة للموت والجريمة.
 
نعم، لقد كنَّا شعباً استثنائياً في الصبر والصمود، وفي تحمل أشرس مذبحة في التاريخ لكيلا نفرط بالأرض والعرض، ولكن كان ينقصنا الوعي الحقيقي الذي يجعلنا نرى الصورة كاملة لنكشف الخونة والمتخاذلين والعملاء بيننا، كان ينقصنا الوعي لكي نفهم تحركات النظام وحلفائه، وكانت تنقصنا الشجاعة لكي نتنقد ونقول: لا وكفى لكلِّ الذين يتوهمون أنَّ النصر سيكون فقط بالبندقية، ويسيرون وراء عواطفهم الفَجَّة في حبِّ الشهادة والموت الذي لا يسعى لحياة أفضل على هذه الأرض، وإنَّما فقط من أجل خلاص فردي مقيت وبطولة مبتذلة.
 
كلُّ هذه الحدّة في الانتقاد هي دعوة حقيقة لنا جميعاً لكي نراجع أنفسنا وممكناتنا وأهداف ثورتنا الحقيقية في الحرية والعدالة والمحاسبة، دعوة لنُعمِل العقل بعيداً عن العاطفة، دعوة لكي نخطط جيداً لما تبقى بين أيدينا من أرض محررة. وفي كلِّ ما كتبتُ هناك إصرار أريد تكراره دوماً: "هذه الثورة هي مطلب حقٍّ لا ينبغي له أن يرتد مهزوماً" لذلك يجب أن نعطيها ما تستحق من الاهتمام والوعي والشجاعة والوقت، وحساب الممكنات، وانتهاز الفرص والتنازلات الممكنة من أجل بدايات جديدة أكثر ثباتاً، فلا يوجد ما نستطيع تحقيقه كاملاً دفعة واحدة، ولكن هناك شيء نستطيع الوصول إليه اليوم إذا فهمنا واقعنا بشكل جيد، وأحسنّا سياسة أمورنا بطريقة أكثر قابلية للحياة، وتخلينا عن الشعارات التي لا نفع من ورائها، وعن الخلافات الإيديولوجية التي تُنشب الحروب فيما بيننا، وعن خوض جميع المعارك الخاسرة سلفاً بدعوى المجد والكرامة، فلا مجد إلا للمنتصرين، ولا كرامة تُرتجى للخاسرين تحت التراب.

لم نفقد الأمل بعد، سنبقى حالمين بعودتنا إلى حلب التي تخصّنا، وما زلنا مؤمنين أنها لن ترتاح إلا عندما تتوسد صدورنا، وتعود لترتسم في أعيينا الحالمة بها. سنكمل هذه الحرب حتى ننتصر، فلا بديل هنا عن النصر مهما كانت هذه الحربُ موجعة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.