شعار قسم مدونات

براءة ابن رشد والمعتزلة من العلمانية

blogs بن رشد

"لا يكرر ابن رشد بنفس الحدة تلك الأسبقية التي حرص المعتزلة على تأكيدها أعني أسبقية المعرفة العقلية على المعرفة الدينية بحيث لا تستقيم الثانية إلا على أساس الأولى. واتفاق ابن رشد مع المعتزلة في جعل "المجاز" وسيلة التأويل الأساسية يبرز لنا اتفاقه معهم كذلك -وإن بطريقة ضمنية- في جعل "المعرفة العقلية" أساسًا ضروريًا "للمعرفة الدينية" لا تستقيم الأخيرة دون الأولى ولا تصح إلا بها. والذي يجعل من التأويل" ضرورة لا غني عنها أن الخطاب الشرعي خطاب موجه للناس كافة على اختلاف مشاربهم وقدراتهم الذهنية وطاقاتهم العقلية."

تلك هي كلمات الدكتور نصر حامد أبو زيد في كتابه "نقد الخطاب الديني"، وهي تعد نموذجا لبحث دعاة تجديد الخطاب الديني من العلمانيين عن جذور في التراث ليجعلوا من أنفسهم امتدادًا له وإحياءً لما أراد الجامدون على النصوص أن يدفنوه. فتراهم يمجدون المعتزلة والفلاسفة، خاصة ابن رشد، فينسبون إليهم القول بأسبقية المعرفة العقلية على المعرفة الدينية، وجعل الأولى أساسًا للثانية، لا تستقيم الأخيرة دون الأولى، ولا تصح إلا بها. والهدف من هذه النسبة مزدوج، فمن جهة يجعل له سلف، ومن جهة أخرى يمهد لنفسه الطريق لإعلاء العقل على النقل. 
 

المعتزلة -على انحرافهم المعلوم في العقيدة- لم يخرجوا عن إجماع المسلمين في باب الأحكام الشرعية العملية، وكتب الفقه والأصول التي تنسب إليهم شاهده على ذلك. فلم ينكر أحد منهم حكمًا شرعيًا علم من الدين بالضرورة

ولكن العقل هنا ليس بمفهوم المعتزلة وابن رشد، وإنما بمفهوم العصرانيين، فليس هو العقل المتفق عليه بين العقلاء، وإنما العقل المختلف من قارئ لآخر، ومن عصر لعصر. وكذلك ليس النقل المسبوق بالعقل هنا مطابقًا لمفهوم المعتزلة وابن رشد، وهو ما يحتمل معناه في العربية أوجه في الفهم، وإنما النقل بمفهوم العصـرانيين، وهو جل ما نقل عن الله ورسوله، باعتبار أن النصوص التي لا تحتمل أوجهًا في الفهم عندهم نادرة، وأن الأحكام على كل حال لا تدخل ضمن دائرة النصوص عندهم. ويمكن مناقشتهم في النقاط التالية: 

أولًا: المعتزلة -على انحرافهم المعلوم في العقيدة- لم يخرجوا عن إجماع المسلمين في باب الأحكام الشرعية العملية، وكتب الفقه والأصول التي تنسب إليهم شاهده على ذلك. فلم ينكر أحد منهم حكمًا شرعيًا علم من الدين بالضرورة، ولم يدعوا يومًا ما عدم مناسبة بعض الأحكام لعصرهم، بل دفعوا في وجه الباطنية التي رامت إسقاط الشرع، ونازلوهم ودحضوا شبهاتهم. 

ثانيًا: لا يتسنى أبدًا وضع المعتزلة في خانة واحدة مع ابن رشد؛ لأن ابن رشد يضلل ويبدع المعتزلة، وقد صرح بعدم إيمانه بطريقتهم في المعرفة أصلًا. فابن رشد يذكر الطوائف التي اهتمت بعلم الكلام وأخطأت في الأدلة على معرفة الله، ويقسمها إلى أربعة أقسام: الأشعرية، والمعتزلة، والباطنية، والحشوية. ثم يقول حاكمًا عليها بالضلال في كتابه "مناهج الأدلة": "إذا تؤملت جميعها، وتؤمل مقصد الشرع، ظهر أن جلها أقاويل محدثة، وتأويلات مبتدعة، بعيدة عن الكتاب والسنة". 

ثالثًا: ابن رشد عرف عنه الشطط في تمجيد المنطق اليوناني، والفلسفة الأرسطية. ورغم ذلك الجنوح فإن ابن رشد يقرر -على سبيل الحصـر- أن طرق تلقي أحكام الشـرع ترجع إلى الكتاب، والسنة بأقسامها القولية والفعلية والتقريرية، ويقرر القياس الفقهي كطريق لاستنباط الحكم الشرعي فيما سكت عنه الشارع من الأحكام، ويعتبر الإجماع ويشترط فيه الاستناد إلى الكتاب والسنة. يقول ابن رشد في مقدمة كتابه "بداية المجتهد ونهاية المقتصد":

"إن الطرق التي منها تلقيت الأحكام عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنس ثلاثة: إما لفظ وإما فعل وإما إقرار. وأما ما سكت عنه الشارع من الأحكام فقال الجمهور: إن طريق الوقوف عليه هو القياس، وقال أهل الظاهر: القياس في الشرع باطل وما سكت عنه الشارع فلا حكم له. ودليل العقل يشهد بثبوته؛ وذلك أن الوقائع بين أشخاص الأناسي غير متناهية والنصوص والأفعال والإقرارات متناهية، ومحال أن يقابل ما لا يتناهى بما لا يتناهى… فهذه أصناف الطرق التي تتلقى منها الأحكام أو تستنبط. وأما الإجماع فهو مستند إلى أحد هذه الطرق الأربعة، إلا أنه إذا وقع في واحد منها، ولم يكن قطعيًا، نقل الحكم من غلبة الظن إلى القطع. وليس الإجماع أصلًا مستقلًا بذاته من غير استناد إلى واحد من هذه الطرق؛ لأنه لو كان كذلك لكان يقتضـى إثبات شرع زائد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا كان لا يرجع إلى أصل من الأصول المشروعة".

فانظر إلى ابن رشد وهو يقضي بعدم استقلالية إجماع عقول مجتهدي المسلمين في عصـر من العصور بتشريع، وإلا اقتضى ذلك إثبات شرع زائد بعد النبي. فماذا سيكون قوله في إثبات استقلال عقل قارئ أو مجموعة من العقول -التي لا تنتمي إلى طائفة المجتهدين- بتشـريع أحكام، لا مستند لها إلا مناسبة تلك الأحكام لتلك العقول؟!
 

ها هو ابن رشد يقطع بما أجمع عليه المسلمون في باب الميراث فيقول: "وأجمع المسلمون على أن ميراث الولد من والدهم ووالدتهم إن كانوا ذكورًا أو إناثًا معًا هو: أن للذكر مثل حظ الأنثيين". فأين هو ممن يسقط هذا الحكم ويعتبره شاهدًا تاريخيًا ليس إلا

وانظر إليه وهو يحكي اختلاف العلماء في صفة الخف ثم يعقب بقوله: "هذه المسألة هي مسكوت عنها فلو كان فيها حكم مع عموم الابتلاء به لبينه -صلى الله عليه وسلم- وقد قال تعالى: (لتبين للناس ما نزل إليهم)". فماذا سيكون قوله في أناس يرفضون السنة كمصدر للتشـريع، وينفون شمولية الأحكام، ويحاربون مرجعية النصوص؟!

ثم انظر إليه وهو يستدل بلسان العرب في تفسير قوله تعالى: (أو لامستم النساء)، فيقول: "وأما من فهم من الآية اللمسين معا فضعيف، فإن العرب إذا خاطبت بالاسم المشترك إنما تقصد به معنى واحدًا من المعاني التي يدل عليها الاسم، لا جميع المعاني التي يدل عليها، وهذا بين بنفسه في كلامهم". فماذا سيكون قوله في أناس يتركون المواضعة من أجل الاستدلال العقلي؟ثم انظر إليه وهو يفوض تقدير المصالح الشـرعية إلى العلماء المختصين، كما يفوض تقدير أمراض البدن إلى الأطباء، بل ويتأسى على زمن يُرى فيه الاشتغال بظواهر الشـرائع تطرقًا إلى الظلم، يقول ابن رشد: "فلنفوض أمثال هذه المصالح إلى العلماء بحكمة الشـرائع الفضلاء، الذين لا يُتهمون بالحكم بها، وبخاصة إذا فهم من أهل ذلك الزمان أن في الاشتغال بظواهر الشرائع تطرقًا إلى الظلم… كما في أشياء كثيرة من الصنائع يَعرِض فيها للصُنَّاع الشيء وضدُّه، مما اكتسبوا من قوة مهنتهم، إذ لا يمكن أن يُحَدَّ في ذلك حد مؤقت صناعي، وهذا كثيرًا ما يعرض في صناعة الطب، وغيرها من الصنائع المختلفة". 

فأين هو ممن يناهض سلطة القدماء، ويعتبر ذلك كهنوتًا، ثم ينسب لنفسه ولطائفته سلطة تقدير المصالح؟! وها هو ابن رشد يقطع بما أجمع عليه المسلمون في باب الميراث فيقول: "وأجمع المسلمون على أن ميراث الولد من والدهم ووالدتهم إن كانوا ذكورًا أو إناثًا معًا هو: أن للذكر مثل حظ الأنثيين". 

فأين هو ممن يسقط هذا الحكم ويعتبره شاهدًا تاريخيًا ليس إلا، أما الآن فلا سبيل لنا إن أردنا أن نعمل بمغزى النص إلا أن نسوي بين الذكر والأنثى في الميراث؟ والحق إن كتاب "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" يشهد، من أوله إلى آخره، أنه ما كان لمسلم يشهد لله بالوحدانية ولنبيه -صلى الله عليه وسلم- صاحب الشرع -بتعبير ابن رشد- بالرسالة أن يشك في مناسبة حكم واحد لجميع الطوائف والمجتمعات في شتى العصور والبقاع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.