شعار قسم مدونات

بعيدًا عن أرطغرل وقيامته

blogs - قيامة أرطغرل

دَعْنا من أرطغرل وقيامته وانظر إلى ما أظهره هذا المسلسل من تغيرات طرأت على مجتمعنا وأَخُصُّ الملتزم أو المتدين منه -على أشهر توصيف- تحديدًا، هؤلاء الذين كان لهم سَمْتُهم الذي يميزهم عن غيرهم، تعرفهم بسيماهم.

 

كان سيماهم في هيئتهم وسلوكهم وملبسهم أيضًا، كانوا يحرصون أن يكونوا في كل أحوالهم دعاة إلى الله بأقوالهم وأفعالهم في جَدِّهم وهَزْلِهم ولَهْوِهم المباح. كانوا يعلمون أنهم بذلك وضعوا أنفسهم تحت المجهر، يقتدي بهم البعض ويتربص بهم البعض الآخر، فكانوا يَدَعُون ما يُرِيبُهم إلى ما لا يُرِيبُهم، ويحْذَرُون من الوقوع في صور مرفوض أن يقعوا فيها كدعاة حتى لا تُنسب إلى الإسلام أو إلى الدعوة والدعاة.

 

هؤلاء الذين كانوا يتساءلون "أين عُمَر وصلاح الدِّين؟"، ويتمنُّون لو كان أيُّهما بينهم ليُعِيد أمجاد الأمة الغرقى، أصبحوا يتساءلون أين أرطغرل هذا الزمان ليُنْقِذنا ونحن الغَرِيقون!

ويبدو أنهم بغير فهم قد قَوْلَبُوا أنفسهم في قالب الالتزام والتدين، قالب ذو قلب أجوف غير واعٍ هكذا قيل لهم عن سَمْت الالتزام ففعلوا -إلا من رحم ربي-.

 

كلفوا أنفسهم فوق ما يطيقون، فضاق عليهم قالبهم وصار لا يسعهم، وأصبحوا يسعون إلى الخروج منه إلى ما هو أوسع، لِيُباح لهم ما كانوا يحرِّمونه على غيرهم في سابق عهدهم، ويُتاح لهم أن يفعلوا ما كانوا يعيبونه ويستنكرونه من غيرهم، فيواكبوا بذلك عالمهم ويذوبوا فيه غير محافظين على سَمْتِهم غير مبالين بما قد يترتب على ذلك من تنازلات وتغيير للثوابت.

 

هؤلاء الذين كانوا دعاةً في المساجد والأسواق وفي المواصلات وأماكن العمل، أصبحت لا تراهم إلا على "الفيسبوك"، وكما يُحْدِثُون جعجعةً مع كل جديد يحدث في واقعنا، ملأوا عالمه الافتراضي الأزرق ضجيجًا بالحديث عن أرطغرل، مما جعل الكثير يحرصون على مشاهدة المسلسل ظَنًّا منهم أنه عمل تاريخي إسلامي ويُقَيِمُونه وينتقدونه على هذا الأساس.

 

هؤلاء الذين كانوا يدعون الناس إلى مدارسة كتاب الله وسنة رسوله وسير الخلفاء الراشدين والصحابة وعظماء المسلمين والتأسي بهم، أصبحوا يدعون الناس إلى مدارسة مسلسل "قيامة أرطغرل" والتعلم منه، فتجد منشوراتهم على الفيسبوك دروس مستفادة من هذا المسلسل، فيقولون: "تعَلَّمْتُ من أرطغرل" بدلًا من أن يقولوا: "تعَلَّمْتُ من عُمَر" مثلًا!

 

هؤلاء الذين كانوا يتساءلون "أين عُمَر وصلاح الدِّين؟"، ويتمنُّون لو كان أيُّهما بينهم ليُعِيد أمجاد الأمة الغرقى، أصبحوا يتساءلون أين أرطغرل هذا الزمان ليُنْقِذنا ونحن الغَرِيقون، وفي كلا الحالتين يتوقف دورهم عند التساؤل والتمنِّي، فلا يعملون ما يجعل عُمَر أو صلاح الدِّين أو حتى أرطغرل يخرج من بينهم، هم ينتظرون أن يرسله الله إليهم من السماء!

 

هؤلاء الذين كانوا يحْذَرُون من أن يقعوا في محظور لئلا يقتدي أحد بهم أو ينسبه أحد إلى الإسلام، لم يحذروا وهم يدعون الناس إلى مشاهدة مسلسل أن ينسب هذا العمل إلى الإسلام! فمهما كان المسلسل محافظًا وقَيِّمًا لا يجب أن يدعي الدعاة إليه كما يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف، فيعطونه أكبر من حجمه وأكثر مما يستحق، ويَظُّن ظانٌّ أنه قد يَأخذ منه دينًا أو تاريخًا.

 

بعيدًا عن أرطغرل وقيامته، هناك من كان همُّهم الإصلاح أيام الرخاء، فلما اشتدت فرَّطوا وعلَّقوا فشلهم في التغيير على شماعة "غياب أرطغرل" وقد كانوا يعلقونه قبل ذلك على "غياب عُمَر.

هؤلاء الذين كانوا يقولون إن الاختلاف في الرأي لا يُفْسِد للوُدِّ قضية، وأن الاختلاف سنَّة الحياة، وأنَّه لابد من قبول الآخر، وأنَّه اختلافٌ لا خلاف، لم يقبلوا آراء المختلفين معهم على هذا المسلسل، وأفسد اختلافهم عليه وُدَّهم! هؤلاء الذين كانوا يعلموننا أن كسب القلوب أولى من كسب المواقف، لم تتسع صدورهم لمناقشة الناقدين لهذا المسلسل، وهم أحرص ما يكونون على كسب موقف لصالح أرطغرل، أبعد ما يكونون عن كسب قلوب ناقديه!

 

هؤلاء الذين كانوا يبغضون التعصب ويقولون: "دعوها فإنَّها منتنة" ويحَذِّرون من التعصب للأشخاص ويحرصون أن تكون غضبتهم لله، أصبحوا يتعصبون لأرطغرل ولا يقبلون عليه كلمة. هؤلاء الذين كانوا يعيبون على الناس وضع صورة ممثل شخصية "مهند" كصور شخصية لحساباتهم على الفيسبوك، وكانوا يستنكرون ذلك من الإناث خاصةً ويرون ذلك منافيًا لحيائهنَّ، لم تستحي إناثهم من وضع صورة ممثل شخصية ""أرطغرل" في حساباتهنَّ، فإذا سُئِلَتْ إحداهنَّ عن ذلك قالت: "إنَّ أرطغرل فاتحٌ إسلامي" وكأنَّ ذلك يبرر لها ما لا يبرره لغيرها!

 

بعيدًا عن أرطغرل وقيامته، هناك من كان همُّهم الإصلاح أيام الرخاء، فلما اشتدت فرَّطوا وعلَّقوا فشلهم في التغيير على شماعة "غياب أرطغرل" وقد كانوا يعلقونه قبل ذلك على "غياب عُمَر."

 

أنا لا أكتب هنا لأعيب على أحد أو أقلل من شأن أحد، ولكني أكتب لأُذَكِّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.