شعار قسم مدونات

ما يُقلقُني كعربيّ في استفتاء تركيّا

blogs استفتاء تركيا

ربّما يتوقّع القارئ أن يكونَ قلقي عائدا للأسباب الكثيرة التي يسوقُها القلقون العرب من استفتاء تركيّا، من قبيل التخوّف من اتّساع سلطات الرئيس -أردوغان في هذه الحالة- ومخاطر استبداده بالسّلطة، والقلق من أن تنساق تركيّا تدريجيّا بعيدا عن النّظام الديموقراطيّ وتفقدَ تجربتُها بالتّالي بريقَها المُلهِم لدعاة ومناضلي الديموقراطيّة العرب، أو أن تتسبّب هذه التوجّهات في استدعاء مؤامرات خارجيّة أو داخليّة لتقويض حكم العدالة والتنمية الذي يبدو واضحا أنّ الغرب ليس راضيا عن سياساتِه منذ اندلاع الثورة السوريّة، ويفقدَ العربُ بالتّالي حليفا قويّا محتمَلا، أو ملاذا آمنا لكثيرا من اللاجئين على الأقلّ، أو أن تدور الأيّام ويصلَ للسلطة من يخالفون توجّهاتِ العدالة والتنمية ويستغلّوا هذه السلطات المتّسعة لقمع معارضيهم -الذين يمكنُ أن يكون من بينهم العدالة والتنمية نفسَه- ويعكسوا مسيرة التقدّم التي قطعتها تركيا بصعوبة.

 

هذه كلّها أسباب وجيهةُ جدّا ومشروعة للقلق، لكنّها ليست السببَ الأساسيّ لقلقي. صحيح أن تجربةَ العدالة والتنمية في تركيّا شكّلت مصدرا أساسيّا لإلهام الإسلاميّين العرب بخصوص إمكان المصالحة بين التوجّه المحافظ، أو ذي الصبغة الإسلاميّة بقدر أو بآخر، وبين النّظام السياسيّ الديموقراطيّ الحديث، وكانت وما تزالُ تجربةً يمكنُ أن نتعلّمَ منها الكثير بخصوص الاستجابة لتحدّياتِ العمل السياسيّ ضمن دولة حديثة، من قبيل أسئلة الاقتصاد السياسيّ، والعلاقة بالغرب، وإدارة العلاقة بالعسكر، وغيرِها. وصحيحٌ كذلك أنّه بصرف النّظر عمّن يحكمُ تركيّا فهي بلدٌ ذو أكثريّة مسلمة، وهي بالتّالي عمقٌ استراتيجيّ وسياسيّ وبشريّ لا بدّ لأيّ مشروع عربيّ/إسلاميّ من أن يعتبرَه حليفاً قويّا محتمَلا بل واجبا، وبالتّالي فتركيا قويّة ومزدهرة وسيّدة هي مصلحة عربيّة مؤكَّدة، ومن المشروع بالتّالي أن يكون أيُّ تهديد لتركيّا أو أي توجُّهٍ قد يزيدُ من فرصِ استهدافِها أمرا باعثا على القلق.

 

لكن رغم ذلك كلّه، تظلّ تركيّا هي تركيّا، ويظلُّ العربُ هم العرب، وأصبحَ واضحاً تماما أنّه حتّى لو ألقت تركيّا بثقلِها وراء تجربة عربيّة ما، فلن تنجحَ هذه التجربة من دون مقوّمات ذاتية للنّجاح، وبدا واضحا كذلك أنّ تركيّا ستضعُ أولويّاتِها أولا -وهذه ينبغي أن تكون بدهيّة لا اكتشافا محزنا-  ولن تقامرَ بمصالحِها لحساب أي شعبٍ أو حراكٍ عربيّ مهما كانت قضيّتُه عادلة، ومهما كانت دواخلُ نوايا الشعب التركيّ أو حتى السّاسة الأتراك تجاهَنا طيبة ونبيلة، مع أنّ افتراض أنّ هذا صحيحٌ دائما أو غالباً ليس حصيفا من الأصل.

 

لذلك، فقلقي كعربيّ متّجهٌ أساسا إلينا، إلى العرب، حيثُ يكشفُ تفاعلُنا مع الحدَث كثيرا من المشكلات العميقة التي يبدو من المؤسف أنّنا ما زلنا نراوحُ مكانَنا فيها دون تدبّر كافٍ، ودون حسم.

 

ليست الديموقراطيّة كائنا غريبا على العرب. شهدت بعضُ بلدانِنا انتخابات ديموقراطيّة في النصف الأوّل من القرن السابق، وشهدَ أكثر من بلد عربيّ انتخابات متفرّقة في نصفه الثاني، وكان موضوع الديموقراطيّة وما يزال مثار نقاشٍ مستمرّ

تقمّصٌ موقفٍ أخلاقيّ متعالٍ دونَ وجودِ مقوماتِه:

تنتشرُ لدينا مفارقةٌ محيّرة. من ناحية، ثمّة قدرٌ مفزعٌ من جلدِ الذّات والحطّ من النفس، ويمكنُ ملاحظةُ هذا في سياقاتٍ مختلفة. هذا الحديثُ الذي تسمعُه من جلسات المقاهي إلى حوارات المفكّرين عن عجز العرب وفشلِ العرب وعدم أهليّة العرب لامتلاكِ زمام أنفسِهم، والتراجعُ السريع عن آمال الربيع العربيّ واعتبارُها نزوةً عابرةً او ساعةَ غفلةٍ عن حقائق الأمور، والحطّ من قدرة هذه الأمة على أن تقدّم التضحياتِ التي قدّمتها أممٌ أخرى من أجل امتلاك حرّيتِها وفرضِ نظمٍ سياسيّة تُشبهُها وتحقّقُ قيمَها. لكن من ناحيةٍ أخرى، تجدُ تعاليا أخلاقيّا غريبا ليس له ما يُبرّرُه حين يتعلّقُ الأمر ببعضِ تجاربِ الأمم الأخرى. قبل الحديث عن استفتاء تركيّا، يُمكنُ ملاحظة هذا الأمر في العلاقة بالغرب مثلا. هناك تعالٍ أخلاقيّ غريبٌ على الغرب، وتوهّمٌ بالتّفوّق عليه في أمورٍ لا نمتلكُ دليلا على التّفوّق عليه فيها. بطبيعة الحال، نحن لا نتحدّثُ عن العلوم والمعارف فتقدّم الغرب فيها يستحيلُ إنكارُه، لكن نتحدّثُ عن النواحي الأخلاقيّة.

 

ثمّة شعورٌ عارمٌ لدى العربِ بالتفوّق الأخلاقيّ، وحين تستفهمُ عن ذلك، فالإجابة غالبا تنحصرُ في أخلاق الأسرة والأخلاق الجنسيّة. لكننا في الحقيقة لا نمتلكُ إحصائيّات دقيقة عن انتشار العلاقات غير المشروعة أو الخيانة الزوجيّة أو حجم التفكّك الأسريّ لدينا، ولا نمتلكُ كذلك إحصاءات دقيقة عن انتشار المخدّرات والخمور، أي عن النواحي التي نعتبرُ تفوقَنا على الغرب فيها أخلاقيّا أمرا مفروغا منه.

 

فضلا عن ذلك، هذا التعريف للأخلاق ضيقٌ جدّا، فعدالة القضاء ومحاسبة الحاكم واحترام الرأي الآخر والحرصُ على تعليم الأطفال والسعي لتحسين الرعاية الصّحيّة والإتقانُ في العمل وكثيرٌ غيرُها كلّها أخلاق. إذا ما وجّهنا سؤال غيابِ هذه الأخلاق عندَنا إلى أنفسِنا، فهناك جوابٌ شائع وضارّ جدّا: هذه القيمُ كلُّها لدينا، بل عندَنا أفضلُ منها، لكنّنا لا نطبّقُها للأسف، ولو طبّقناها فسنصبحُ أفضلَ من الغرب. بل يتجاوزُ الأمر ذلك إلى أن يقوم البعض -وهناك مفكّرون ينتمونَ لهذا البعض! – بنقد الغرب أخلاقيّا بناء على ما لدينا من قيمٍ نظريّة!

 

ولو سألتَ عن السبب الذي يمنعُنا من تطبيق ما لدينا من قيم، فستسمعُ تفسيراتٍ متعدّدة، من قبيل البعد عن الدّين، إلى أثر الاستعمار، إلى هيمنة المنظّمات الدولية والنيوليبيراليّة ووكلائها المحلّيين، إلى غير ذلك. ولكن بصرف النّظر عن السبب، لدى كثيرٍ من العرب شعورٌ بأنّ امتلاكَ القيم نظريّا يمنحُ تفوّقا أخلاقيّا يخوّلنا بانتقاد الآخرين وتقديم النّصائح لهم والشّعور بالتعالي عليهم لأن وقائعَهم لا تسمو إلى مستوى قيمِنا النظريّة.

 

شيءٌ من هذا تجدُه في كلّ ما يتعلّق بتركيّا منذ أن أصبحت تجربتُها محلَّ جدلٍ عربيّ دائم. هناك إفراطٌ غريب في تقديم النّصائح، والرغبة في تعليم الأتراك كيف ولمن يُصوّتون في الانتخابات، والتحذير من شعبويّة أردوغان بل من أنّه يتحوّل إلى ديكتاتور، وغيرِها. كثيرٌ من هذه النّصائح تصدرُ من عربٍ لم ينتخبوا مرّة في حياتِهم ولو في انتخابات بلديّة، وكثيرٌ من هؤلاء مؤيّدون دوغمائيّون لنظامِ بلدِهم الملكيّ غير الديموقراطيّ الذي لا يمكن فيه محاسبة وزير فضلا عن انتخاب رأس السلطة، وبعضُ هؤلاء مؤيّدون لطغاة محلّيين أو إقليميّين مثل السيسي والأسد.

 

قلتُ في البداية، ويجبُ أن أؤكّدَ مرّة أخرى، على أننا لا نتحدّثُ هُنا عن خوف الحريص على ديموقراطيّة تركيّا، ولا على محلّل يقدّم تحليلا سياسيّا محايدا للاستفتاء ونتائجِه وأثره على الديموقراطيّة في تركيا. لا، نحن نتحدّثُ هنا عن عربٍ يُقدّمون نصائح ووصايا، ما يعني أنّهم يجبُ أن يكونوا بالضرورة مؤمنين بالديموقراطيّة ومعادين للاستبداد والشعبويّة في تجلّياتِها اليساريّة واليمينية، الجمهورية والملكيّة والعسكريّة والقبليّة والدّينيّة، وساعين ولو بالحدّ الأدنى من أجل ديموقراطيّات عربيّة، وهذه شروطٌ ليست متحقّقة في كثيرٍ من الأحيان.

 

إذن، يجتمعُ في مفارقة غريبة الحطّ الشديد من كلّ ما له صلة بنا ومن قدرتِنا على امتلاك زمام أنفسنا واختيار نظم حكمٍ تحقّقُ قيمَنا والتأكيدُ الدائم على أنّ الديموقراطيّة لا تليق بنا وأننا بالضرورة قطيعيّون رعويّون سائرون خلف الزعيم الرمز، بل يتمّ التنظير لذلك أحيانا ودعم النظم المستبدّة التي تمثّلُه.. يجتمع مع ذلكَ تعالٍ غريب على الممارسة الديموقراطيّة لدى الأمم الأخرى، مثل تعليقات العرب على اختيار اسكتلندا للبقاء ضمن التاج البريطاني، واختيار البريطانيين الخروج من الاتحاد الأوروبي، واختيار الأمريكيين لدونالد ترامب، وموافقة الأتراك على التعديلات الدستوريّة. هذا أمرٌ يدعو للقلق الشديد.

 

الصندوقراطيّة: كانت هذه الكلمة اكتشافا سعيدا وقعَ عليه بعض العرب، وهي كلمةٌ تهدفُ إلى ذمّ الإيمان بالديموقراطيّة في شقّها الإجرائيّ مع عدم التسليم بمقتضيات النّظام الديموقراطيّ، أي النّظر للديموقراطيّة باعتبارِها مجرّد إجراءات من دون امتلاك ثقافة ديموقراطيّة حقيقيّة

محدوديّة الإلمام بالديموقراطيّة وجزئيّاتِها وما تعنيه:

ليست الديموقراطيّة كائنا غريبا على العرب. شهدت بعضُ بلدانِنا انتخابات ديموقراطيّة في النصف الأوّل من القرن السابق، وشهدَ أكثر من بلد عربيّ انتخابات متفرّقة في نصفه الثاني، وكان موضوع الديموقراطيّة وما يزال مثار نقاشٍ مستمرّ، لكن كثيرا ما يبدو أنّ هذا النّقاش يراوحُ مكانَه. لا نتحدّثُ هنا عن الثقافة الديموقراطيّة بمعنى تمثّلِ قيم الديموقراطيّة والالتزام بمضامينِها وتبعاتِها الأخلاقيّة، بل نتحدّثُ عن الإلمام بقضايا الديموقراطيّة على مستوى الفهم الإجرائيّ لها، أي تنوّع النظم الديموقراطيّة بين رئاسية وبرلمانيّة ومختلَطة، وتنوّع نظم الانتخاب ما بين الانتخاب الفرديّ وانتخاب القوائم والانتخاب المختلَط، وما ينطوي عليه الانتخاب من تمثيلٍ وتفويض، والفرق بين المظاهرات بعد انتخابات نزيهة وبينها بعد عقود استبداد، والفرق بين أن يطبّقَ الحزبُ أو الرئيسُ المنتخَب سياساتِه وبين يتعدّاها إلى تغيير شكل النّظام، وبين تغوّل المنتخَبين على السّلطة وبين حقّهم في تغيير واسع في الإدارات لتحقيق رؤاهم، وغيرِها.

 

الأمثلة الدّالة كثيرة. حين كانت نتيجة الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبي هي المواقفة بفارق ضئيل، تغنّى كثيرٌ من العرب بالديموقراطيّة التي تجعلُ نصفَ الشّعب تقريبا يرضى باختيار نصفِه الآخر رغم معارضتِه لهذا الخيار، لكن حين تحصل النسبة نفسُها في انتخابات عربيّة، يبدأ الحديث عن أن الديموقراطيّة لا تعني ديكتاتوريّة الأكثريّة بل النزول عندَ رغبات الأقلّيّة! أكثر الانتخابات في العالم تُحسَم بفوارق ضئيلة، ولا شكّ أن عدم رسوخ نظام ديموقراطيّ عربيّ يُعطي الأولويّة لسياسات الإجماع والبعد عن سياسات الاستقطاب، لكن تقدّم الممارسة الديموقراطيّة العربيّة يقتضي كذلك أن يُتاح للديموقراطيّة أن تُظهرَ فاعليّتَها وأن يترتّب على الانتخاب نتائجُ حقيقيّة تجعل الناخب مقتنِعا بجدوى المشاركة لا عازفا عنها، ربّما إلى حلول خطِرة.

 

الصندوقراطيّة:

كانت هذه الكلمة اكتشافا سعيدا وقعَ عليه بعض العرب، وهي كلمةٌ تهدفُ إلى ذمّ الإيمان بالديموقراطيّة في شقّها الإجرائيّ مع عدم التسليم بمقتضيات النّظام الديموقراطيّ، أي النّظر للديموقراطيّة باعتبارِها مجرّد إجراءات من دون امتلاك ثقافة ديموقراطيّة حقيقيّة. هذا نقدٌ محقّ لممارسة كثيرين للسياسة ولانخراطِهم في العملية السياسيّة. الصناديقُ وحدَها لا تكفي، لكنّ الصناديق أساسيّة ووجودَها أفضلُ من عدمِه، طالما أننا لا نتحدّثُ عن انتخابات مزوّرة تُحسم ب 99 بالمئة. هذا التفريق بين إجرائيّة الديموقراطيّة وثقافتُها مهمّ بقدر، لكنّه ليس فصلاً حادّا، فالممارسة الإجرائيّة جزء أساسيّ من تكوين الثقافة الديموقراطيّة.

 

صحيحٌ أنّه لا معنى للصناديق من دون حرّية الرأي وحرية النقد وحريّة الإعلام وحريّة تحصيل المعلومات وحرّية التقاضي أمام قضاء نزيه، لكن إذا غابت بعضُ هذه الحرّيات جزئيّا، فهذا ليس مبرّرا لرفض الصناديق. ظلّ كثيرٌ من العرب يقولون إن الصناديق وحدَها لا تصنعُ ديموقراطيّة، وهذا حقّ، لكنّهم تحالفوا مع الاستبداد ضدّ الصندوق الذين لا يستطيعون ملأه، وكانت النتيجة أننا لم نحصّلِ الثقافةَ الديموقراطيّة، وخسرنا الصناديق. هذا ما ينبغي أن يُشعرَنا بالقلق كعرب ونحن نتابعُ استفتاء تركيّا، أكثر من نتيجة الاستفتاء ونوايا أردوغان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.