شعار قسم مدونات

"سيلفي" العساكر

blogs - سيلفي حرب
كالعادة، لم نكن نحن من ابتكرنا فكرة "السيلفي"، ولكن كُنَّــا ممن أساء استعمالهـا. فالسيلفي إيماءة عفــوية بهدف توثيق لحظة ما، وكما يُسْتَدَلُ من اشتقاق اسمها بالأجنبي، تعني اقتناصك لفرصةٍ نادرة لكي توثق وجودك فيها بنفسك ودون الاستعانة بالآخرين.

على سبيل المثال إن مر من خلفك "ميسي" أو "كريستيانو رونالدو" أو "نيمار" فخذ سيلفي إن كنت من هواة كرة القدم.. وإن صادفك "بوتين" أو "بوتفليقة" أو "أردوغان" في أحد المطاعم فخذ سيلفي معهم إن كنت من متتبعي السياسة.. وإن قابلك الفنان "محمد صبحي" أو "سيلفستر ستالون" في أحد المصاعد فخذ معهم سيلفي إن كنت من هواة الفن.. أما إن وجدت نفسك بالقرب من برج "آيفـل" فسارع بسيلفي معه قبل أن يتحرك من مكانه!

السيلفي مع المشاهير ومع المعالم الأثرية أمر طبيعي ومقبول، ولكن عندما تأخذ سيلفي مع جثامين لأطفال ونساء وعجائز مسنات قتلتــهن بسلاحك.. أو مع جثامين لقبور نبشتهــا وتشير بعلامة النصر "V" بيدك الأخرى فمن أي أصناف الهـــواة أنت؟ أنت إذن يا عزيزي من هواة القتل والإجرام.. فأنت مجرد "قاتل وفي يده سيلفي".. بل أنت، وببساطة، لست سوى فارسا من "فرسان السيلفي".. تمتطي الآيفـون لتوثق به جرائمك!

لا أعتقد أن هوميروس سيتحسر كثيرًا على ما فاته في بنغازي. فلم تكن هناك بطولات أُسطورية لحفتر وعساكره ليوثقها في إلياذته. بل كانت حربا مدمرة على مدى ثلاث سنوات قُتل فيها أكثر من عشرة آلاف شاب.

منذ أسابيع شاهدنا عساكر حفتر في بنغازي وهم ينبشون القبور ويمثلون بالجثث وينفذون تصفيات ميدانية ويأخذون سيلفي مع الضحايا.. لم يكن الأمر محتاجًا منهم إلى المزيد من التوثيق، فالصور غزت الإنترنت حتى غص الفيسبوك وتقيأ تقززًا من بشاعتها، إلا أن هـؤلاء "الفرسان" أصـروا على توثيق أفعالهم بهواتفهم المحمولة وبكل جرأة ولامبالاة.. في مشهد مؤذٍ ولا يمت للإنسانية بصلة.

نعـــم.. لك أن توثق اللحظة أيها الفارس.. فسَتُسْأَلُ يومًا عن كل روح ٍأزهقتهــا.. وسيكون عليك أن تجيب.. فالملائكة لا تملك آيباد أو آيفون ولكن إن خطر على بالك أن تكذب أو أن تنكر.. فإن السيلفي سيفضحك.. وسيكون هاتفك يومئذٍ كفيل بالرد عليك فيشهد عليك كما تشهد عليك أعضاؤك.

نعـــم.. لك أن توثق اللحظة أيها الفارس.. فمن تصور معهم أُسْتُخرِجتْ جثامينهم بعد أسابيع وشهور من دفنها ووجدتموها كما هي، بل ـ وبشهادتكم ـ فاحت رائحة المسك من بعضها، في كرامات وعلامات حسن ختام لا ينالهــا إلا الصالحون.. كرامات حقيقة ليست ككرامتكم!

أيها الفارس.. أتأخذ السيلفي مع نسـوة وأطفال عُزَّلٌ قتلتهم بسلاحك؟.. ألم تلدك إمرأة أوهنها الحمــل وآلمها الوضع؟.. ألم تكن طفلاً صغيرًا ضعيف العود مثل هؤلاء ولم يقتلك أحــد أيها الفارس؟.. أتفتخر اليوم بقتل هـؤلاء الضعفاء العزل؟.. أي رجولة هـذه يافارس الآيفــون؟.. فبئس الفارس أنت!

أيها الفارس.. أتكرر كالببغــاء "الله أكبر ولله الحمد" وكأنك حـررت القدس، أو كأنه يُهمِك إجلال الله وحمده!.. والله أكاد أجزم يقينًا بأنك لا تعرف حتى كيف تتوضأ أو ما هي أركان الإسلام!.. لـذا، دع عنك لفظ الجلالة أيها الفارس، فهــو ليس موسيقى تصويرية لجرائمك.

وأخيـرًا.. تكبل ضحاياك.. تصطفهم ووجوههم إلى الحائط.. ثم تصفيهم بطلقة في الرأس دون تحقيق أو محاكمة، وتدَّعي أنك جيش يحارب داعش!!.. والله لا أرى فرقــًا بينكمــا، فأنت وداعش سيان أيها الفارس..!

ما حدث في بنغازي يعكس حقيقةً مُـرَّة وهي أنه عندما يجتمع التوحش والرعونة، مع السلاح والتقنية المحمولة فإنها تُنْتِجُ ذئابًا بشرية تمارس السادية بملابس عسكرية وهواتف ذكية.. دواعش عسكرية.

لا أعتقد أن هوميروس سيتحسر كثيرًا على ما فاته في بنغازي. فلم تكن هناك بطولات أُسطورية لحفتر وعساكره ليوثقها في إلياذته. بل كانت حربا مدمرة على مدى ثلاث سنوات قُتل فيها أكثر من عشرة آلاف شاب، وهُجِّرَ ونزح عشرات الآلاف من سكان المدينة، ومُزِّق نسيجها الاجتماعي، ودُمِرَّت أهم معالم المدينة وجامعتها ومينائها ومطارها وعطلت الحياة فيها لثلاث سنوات.

هوميروس إن عاد فسوف لن يكتب عن بطولات أوديسيوس وعن حصان طروادة بل سيكتب عن حصار قنفودة وبغــــال طروادة (أجَلَّكُمُ الله)!

ما شاهدناه في بنغازي مؤخـرًا كشف حقيقة تردد كثيرين في الإفصاح عنه وهو أن عساكر حفتر ليسوا سوى ميليشيات عابثة وعصابات متشرعنة لا تمت للجيوش النظامية بصلة.

للأسف، ما حدث في بنغازي عارٌ لن يمسحه الزمن. عارٌ بكل المعايير والمقاييس والأعراف. عارٌ بمعايير الإنسانية والعروبة والإسلام.

ما حدث في بنغازي يعكس حقيقةً مُـرَّة وهي أنه عندما يجتمع التوحش والرعونة، مع السلاح والتقنية المحمولة فإنها تُنْتِجُ ذئابًا بشرية تمارس السادية بملابس عسكرية وهواتف ذكية.. "دواعش عسكرية" أو "عساكر داعشية" لك أن تسَمِّـها ما شئت!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.