شعار قسم مدونات

احذروا الهزيمة النفسية

blogs - شطرنج
التّاريخ لا يصنعه تلويح "هنري كيسنجر" بحرب عالميّة ثالثة.. لأنّ أُمّةً تُظهر استعدادها لإحراق البشرية من أجل الاستمرار في استنزاف خيرات الشعوب سقطت أخلاقيا، وهي ساقطة قبل ذلك وبعده عسكريا في أكثر من ميدان، واقتصاديا بما لا يحتاج إلى دليل، وسياسيا في كلّ المواقف التي سكتت فيها عن سفك الدماء وبرّرت جرائم الدول الإرهابية ولم تَبخل بالفيتو نُصرة لمصالح دموية ولو على حساب القيم والمبادئ الإنسانية..

والتاريخ لا تصنعه نبوءات "عمران حسين" المثبطة، لأنّ "التشريع للواقع بتحدّياته القطعية" لا يُؤخذ من تخمينات وتأويلات ظنّيّة لأخبار غيبيّة محتمِلة تُسقَط على واقعنا بطريقة مليئة بالتّعسف، لتُصبح قوالبَ جاهزةً مانعةً من التفكير ومن المبادرة..

فمن المفترض أنّنا دخلنا مرحلة نهاية الزمان من لحظة أن بُعث النّبيّ الخاتم، ولكنّ ذلك لم يمنع النّبيّ الكريم ولا أصحابه ولا التّابعين من المبادرة والاجتهاد الفكري والعملي من أجل إدراك الحقّ والانتصار له..

وإنّ السياسة الانتقائية التي يعتمدها كثير من الحداثويين في التعامل مع النصوص من أجل تبرير مواقفهم وخياراتهم الفكرية، يقابلها سياسة انتقائية مضادّة ينتهجها الذي يظنّون أنفسهم أكثر حرصا على الحقّ وأكثر إدراكا له، ويعتمدونها بنفس المنطق التبريريّ للمواقف وللواقع معا، ليصنعوا من حيث يقصدون أو لا يقصدون قدرا لا بأس به من السلبيّة في التعامل مع الأحداث، مع قدر من التّضييق على الاجتهاد والمحاولة من أجل توفير الحل الأمثل في ظلّ التّحدّيات الحقيقية الكائنة، لا في ظلّ القراءات التأويلية المغرقة في الرمزية لما يُمكن أن يكون..

يُحاول خصومُنا أن يكسروا مكامــن القوّة والتّميّــز في نفوسنا، ويُصدّعـوا وحدَتنــا وبنيـة ثقافتنا، ويخترقوا عقائدَنا ومفاهيمَنا وحتّى أحلامنا… معوّلين على جنودهم في أرضنا.

والتّاريخ لا يصنعه خطاب نجومِ دعوةٍ متعالمين، أُغرموا بجلد الذّات حينا، وبتخدير العواطف وتسكين الآلام حينا، وبتبرير الجرائم والعجز حينا آخر، وبتغليب خطاب الحقد والإقصاء أحيانا كثيرة..

ولا تصنعه افتراءات إعلاميّين احترفوا الكذب الممنهَج، وباعوا ذممهم للشيطان، ولم يتورّعوا عن أيّ مبالغة حتّى أضحوا أضحوكة وفضيحة إعلاميّة يتندّر بها القاصي والدّاني..

التاريخ يصنعه شعب أراد الحياة… وأحرق بوعيه كلّ الزّيف الذي يزرعه الانتهازيون في الأرض… وأظهر من صبره وإصراره ما ينقض كلّ ما فتلوا من حبال الإذلال، الشّديد منه والنّاعم، ليكسروا إرادته، ويصرفوه عن حقّه في الحياة الكريمة..

لقد جاء علينا زمان لا يملك خصومنا إلا أن يدخلوا في ديننا حتّى ولو انتصروا علينا في معركة أو حتّى في حــرب، ولا تفسيــر لذلك إلا أنّ فكرتنـا كانت أجـلَّ وأعظـمَ في أعينهـم من فكرتهـم. وأنّ هزيمتنـا كانت في الأرض ولم تكن في أنفسنا..

أمّا اليوم، فيُحاول خصومُنا أن يكسروا مكامــن القوّة والتّميّــز في نفوسنا، ويُصدّعـوا وحدَتنــا وبنيـة ثقافتنا، ويخترقوا عقائدَنا ومفاهيمَنا وحتّى أحلامنا… معوّلين على جنودهم في أرضنا:
– فمن جنودهم بعضُ أهلنا الذين يتحدّثون لغتَنا ويحترفون احتكارَ الذّكاء والمعرفة، ولا همَّ لهم إلاّ أن يُخرّبوا حصونَنا الثقافيّةَ من داخلها ويبْنُوا "قواعدَ" ثقافيّة للاستعمار في ديارنا…
– ومن جنودهم حُمقُنـا وسلبيّتنـا وبأسُنـا الشّديد بيننـا وجهلُنـا بأنفسنـا والغبـاءُ المهيمـن على خطابنا ومواقفنا..

لكم أُوتينا من كلماتنا التي لم نقدّرها حقّ قدرها، ومن مواقفنا التي حكمتها المزاجيّة والانفعال على حساب الحكمة والأناة، فأعطينا خصومَنا المبرّراتِ للتّشهير بنا.

فاحذروا الهزيمةَ النّفسيّة فهي البداية الحقيقيّة للهزيمة الحضارية التي يعمل عليها الخصوم لمدى قرون، وقد كان الآباء -رغم تخلّفهم المادّي والمنهجي- مشبَعين في نفوسهم بمعاني الثّقة في حقّهم والإيمان بعدالة قضيتهم، ممّا جعل جهودَ المعتدين ترتطم في الغالب بصخور كأداء ما كانوا ليتصوّروا وجودها، ولا ليفهموا مبعثها..

واحذروا الغباءَ في الخطاب والمواقف، فلكم أُوتينا من كلماتنا التي لم نقدّرها حقّ قدرها، ومن مواقفنا التي حكمتها المزاجيّة والانفعال على حساب الحكمة والأناة، فأعطينا خصومَنا المبرّراتِ للتّشهير بنا، وإن كانوا لا يحتاجون إلى المبرّرات ليتفنّنوا في ذلك، وأعطينا الشّيطانَ الأسباب والمؤيّدات ليزيد من تعميق الهوّة بيننا وبين إخواننا ويتفنّن في إفساد ذات بيننا، غير عابئين بقوله تعالى: "وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْـزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا" (الإسراء: 53).. وثقوا أنّ المستقبلَ لفكرتكم… بكم أو بغيركم…

تلك الحقيقة التي سلّم بها أمثال "جوته" و"مونتغومري وات" و"هوفمان" وغيرهم ممّن يستشرفون مستقبلا للإنسانيّة تكون قيم الخير والرّحمة هي الحاكمة فيه بدلا من قيم التسلّط والاستبداد وابتزاز الأفراد والشّعوب… ففي ديسمبر من عام 1820، كتب "جوته" إلى صديقه "فيلمير" شاكِرًا إيّاه على إهدائه نُسخةً من مجموعة حِكمه المنشورة في فرانكفورت تحت عنوان "آراء في الحياة، كتاب للشباب" ومؤكّدا له أنّ كتابه "يحفز على التّفكير في كلّ الآراء الدّينيّة الرّشيدة، وأنّ الإسلامَ لهو الرّأيُ الذي سنُقرّ به جميعنا، إن عاجلا أو آجلا". (كاتارينا مومزن: جوته والعالم العربي: 175)

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.