شعار قسم مدونات

الكتابة على بصيرة: الشنقيطي والنقد الحماسي

blogs - الشنقيطي
أحب أن أقدم نفسي للأستاذ الشنقيطي "كشابٍ عربي" فحسب، لا لشيء ولكن لأن الخيارات التي قدمها لنا الأستاذ محدودة جدًا، ففي أول مقالاته في تناوله لكتاب وائل حلّاق الدولة المستحيلة جعل "المخدوعين بأطروحة حلاق وجماعته" نوعين: شبابًا عربيًا وأنصاف مثقفين. وأنا أحب أن أفكر في نفسي على أني أكثر من نصف مثقف.

لن أناقش الأستاذ في نظرية حلاق وأطروحته. فقد قام وقد يقوم بعض "الجماعة" بهذه المهمة.
أيها السائلُ عنهم وعَنِي ** لستُ من قيسٍ ولا قيسُ مِنِي.

ولم أجد مذ كنتُ رغبةً في الانضمام إلى جماعة يكون رأسها رجلًا مسلمًا من الصالحين، حتى أنضم إلى جماعة يرأسها مسيحي. وإنما أنا قارئ متابع لما يُكتب ويستفزني أن يتسلط علي كاتبُ يفرض علي خيارين إما الأخذ برأيه العَجِلِ غير الجيد أو تحمل تهمة الانخداع "بتمسيح الإسلام" وتحويله إلى ديانة دراويش.

ولهذا انتدبتُ نفسي لأن أمارس شيئًا من النِضال السياسي – الذي مَهَر فيه الأستاذ الشنقيطي وأسأل الله ألا يحرمه أجره- وأقاوم ما يمارسه الأستاذ الشنقيطي على عقولنا.

يكتب الأستاذ الشنقيطي غالبًا في المواضيع التي يتحمس لها بقفّازي ملاكم وتغلب عليه روح النضال فلا يبالي أين تقع كلماته أو لكماته. وهذا ليس جديدًا على أسلوب الأستاذ؛ فمن قرأ له عرف ذلك منه. تجده يتناول مسألة فقهية كحد الرجم سار عليها الفقهاء منذ عهد الراشدين إلى اليوم فتغلبه الحماسة على عقلية الباحث ويلبس القفّاز ليكتب عن حد شرعي نُقِلَ فيه الإجماع "مصيبة فقهية كبرى" و"ممارسة همجية" وشيء "جاء به الفقهاء" الذين هم أئمة الإسلام!

لا أخال أحدًا ممن مارس النضال السياسي تخفى عليه بديهيات الممكن والمتاح والغاية المنشودة ومسألة إكراهات الواقع. وأن للطرح الفلسفي ميدانه المخالف لهذا وفي كليهما مجالٌ واسع للاجتهاد والتوفيق.

كتاب الدولة المستحيلة:
أما كتاب الدولة المستحيلة فقرأناه غير مرة وناقشناه مع أصدقاء ومتخصصين وكان حاصل هذا كله والذي خرجنا به أنه دعوة للبحث عن حل لأزمة أخلاقية في الحداثة الغربية من خلال إشكالية نموذج الدولة الحديثة التي تنعدم فيها المرجعية الأخلاقية. فقام حلّاق بحكم تخصصه بدراسة الموضوع من جانب جديد؛ بعرض المفهوم الإسلامي ومباينته لهذا النموذج الحداثي واستحالة التوفيق بينهما فأصول الدولة الحديثة أصول لاهوتية مباينة تمامًا لفلسفة الإسلام وأجنبية عنها، ووجدنا في الكتاب دعوة للاجتهاد لتقديم حلٍ إسلامي لهذه الإشكالية الكبرى وإنقاذ البشرية بنموذج سياسي جديد. هذا ما فهمناه وهذا ما كان.

ثم جاء الأستاذ الشنقيطي بسلسلة مقالات ليتجاوز إشكاليات الدولة الحديثة التي ركز عليها حلاق ويركز على "أجنبية" حلاق عن الفقه السياسي الإسلامي والتراث السياسي وتكلم كثيرا بأشياء حول هذين المعنيين ولم يقل شيئًا. وانتهت الحلقة الأولى.

تبع ذلك مقالان حدثنا فيهما الأستاذ بمعلومات تعريفيه عن مسيحية حلاق وعن التجربة الإسلامية السياسية ومفارقتها للأديان الأخرى كالمسيحية والبوذية وبأشياء أخرى ظن أنها مفيدة وتخفى على "الشباب العربي، وأنصاف المثقفين" الذين انخدعوا بأطروحة حلاق، ولو انتهى الأمر عند هذا لكان رأيا من الأراء حول كتاب حلاق فحسب. ولكن هيهات فروح النضال في الأستاذ لا تتركه، فتناول خوذةً مع قفازيّ الملاكمة واستعد.

دعوى التأييس:
وجد الأستاذ أن حلاق يستخفي ويلتف ويحتال على قرّائه من البسطاء من "الشباب العربي وأنصاف المثقفين" لييئسهم من الدولة الإسلامية وأنّ وجودها مستحيل وراح يدندن حول مساعي المستشرقين وأذناب الغرب والتدين الميّت.

ولست أدري كيف انتهى الأستاذ إلى هذه النتيجة وكيف اهتدى إليها. وأخشى أن أطالبه بإثبات هذا الأمر من كلام حلاق فيقول إن تلوّي أسلوب حلاق والتفافه يجعل من الوقوف على التصريح بفكرته صعبًا ولا نقول مستحيلًا لحساسية الأستاذ من هذه الكلمة. وعلى كل حال فالوقوف على دعوى لا يستطيع صاحبها البرهنة عليها من كلام خصمه لا طائل وراءها. ناظر الشافعي فقيها مالكيًا في الاستحسان "فقال له صف لي الاستحسان، فقال الفقيه: شيء ينقدح في ذهن المجتهد لا يستطيع التعبير عنه. فقال الشافعي: ذلك المسّ!" بسم الله الرحمن الرحيم.

لقد حمل الشنقيطي كلام حلاق عن استحالة الدولة الإسلامية حملًا خاطئًا ووضعه وضعًا خاطئًا. فهل تكلم حلاق على استحالة مطلقة؟ وهل يلزم من استحالة الدولة الإسلامية قعود عن العمل والرضى بالظلم والاستبداد؟

نجيب نحن فليس من طبع الأستاذ التفاعل مع الردود. إن الاستحالة الموجبة لانعدام العمل هي الاستحالة المطلقة والتي دندن حولها الشنقيطي وهي شيء لا وجود له في الكتاب ولم يتناوله حلاق أصلا بل ينص على خلافه في كلامه عن الممارسة السياسية الإسلامية في التراث. وإذن فالاستحالة التي يتكلم عنها حلاق لا علاقة بما يكتبه الشنقيطي وما انفك يردده من أساسيات في عجز المسيحي عن تصور التلاحم المدني والسياسي في الديانة الإسلامية. وإنما الاستحالة التي يتحدث عنها حلاق هي في صورة واحدة هي مطابقة الفكرة الإسلامية مع هذا المنتج الحداثي اللاهوتي المسيحي، وإن من يريد أن بأسلمة كمن يريد أن يأسلم المسيحية. وإذن فالاستحالة مخصوصة بنموذج معين لا بتصور عام عن استحالة وجود نموذج إسلامي سياسي مخالف.

لا يصح لـ"درويش" كالغزالي أن يقرر في كتاب مفاهيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم يتناول الإنكار على السلاطين والأمراء بمثل هذا فهو ناقضُ لمبادئ الدروشة والخمول.

ثانيًا هل القول بهذه الاستحالة المخصوصة موجبُ للقعود عن العمل وتخدير الأمة؟ لا ليس كذلك. بل هو دعوى للعمل على المستوى المفاهيمي وابتكار آلياتنا الخاصة بنا بدل الركون إلى المنتجات الجاهزة وبذل الجهد في التركيب والتلفيق. وأما بالنسبة لصرفها عن النضال السياسي ومقاومة الاستبداد والانشغال بعملية التحرير فلا أحسب أنه شيء يقول به عاقل ممن أخذ بنظرية حلاق. وأن التفريق بين مستويي الممكن والواجب حاضر في الأذهان وأن مناجزة الظالمين ومقارعة أنظمة القهر والاستبداد ضرورة إنسانية وشرعية وأن اكتمال النموذج الإسلامي هو أفق يسعى إليه الجميع.

ولا أخال أحدًا ممن مارس النضال السياسي تخفى عليه بديهيات الممكن والمتاح والغاية المنشودة ومسألة إكراهات الواقع. وأن للطرح الفلسفي ميدانه المخالف لهذا وفي كليهما مجالٌ واسع للاجتهاد والتوفيق.

ولكن الإسلاميين الديموقراطيين أمثال الأستاذ الكريم يجدون في هذا تحديًا كبيرًا لمزاعمهم أن الحل النهائي هو دمقرطة الإسلام أو أسلمة الديموقراطية وتنتهي كل المشكلات. ولذلك فدعوى حلاق مزعجة لمن يبحث عن حلول جاهزة وفرص لمجرد التطبيق لنموذج جاهز بدون التعب في عملية اجتهادية لإيجاد بدائل. وأعجب من أستاذنا المتخصص صاحب الحديث عن الأزمة الدستورية في تاريخنا السياسي واطمئنانه إلى نموذج غربي أجنبي ليس محايدًا.

ولم يستخدم أحدٌ فيما نعلم من الإسلاميين ممن قرأوا لحلاق أنهم انتهوا إلى اليأس، إلا ما كان من أبي قتادة الفلسطيني، وإن امرئ يحمله كلام مثل أبي قتادة على محمل الجد ويستشكله لغير جيد الرأي.
وكم يكبُر على الديموقراطيين الإسلاميين أن يقول لهم الجهاديون "ألم نقل لكم"؟

الغزالي وطه عبد الرحمن وتوزيع الأدوار:
من يقنع الملاكم الثائر في الحلبة أن الفريق الطبي لمنافسه ليسوا خصومًا له؟
لم يكن لحجة الإسلام وطه عبد الرحمن ذنب غير ظهورهم في كتاب حلاق كروافد لفكرته عن الأخلاق. فاستحقوا بذلك وصف الدروشة والبعد عن روح الدين الإسلامي وفلسفة القرآن. وأحسب أن التفصيل فيما يأتي أقرب للقارئ العادي ممن لم يطلع على الكتاب وليس له اهتمام بقراءته لنبين ما يمارسه أحد دعاة التحرير ورفض الاستبداد في واقعنا على المستوى الفكري. وكيف يستطيع الكاتب بالحماسة أن يجرف كل شيء يقف أمام فكرته وإن غالط وتجاهل معطيات تزعج فكرته.

تقوم دعوى الشنقيطي في أن اعتماد حلاق على هاتين القامتين الإسلاميتين كان مناسبًا لتوافق منهج الرجلين في القابلية "للتمسيح" وتقديم إسلام منزوع الدسم. وهذه الدعوى لا يخلو قائلها من ثلاثة أحوال. إما الجهل بالرجلين، أو المعرفة بهما والعجز عن فهم مشروعهما، أو تحقق المعرفة والفهم وبقاء سوء الغرض. وأنا أبرّئ الأستاذ من سوء الغرض وأترك للقارئ الحكم بعد نقض دعواه وبيان بطلانها.

اتهام الاتجاه الصوفي بالاستكانة وموالاة الظلم والرضا بالاستبداد وتجاهل أحوال المسلمين تهمة قديمة ولها دلائل في تجارب كثيرين من المتصوفة ولكنها غير صالحة للتطبيق على الرجلين اللذين لم يكن لهما ذنب إلا التواجد في الحلبة مع ثورة الملاكم فنالتهم اللكمات.

أما أبناء الأمة المؤمنة المجاهدة فلا تستعبدهم عوائق ولا عقبات؛ فهم يجاهدون عوائق الباطل والظلم كما يجاهدون عقبات الحق والعدل، ويجاهدون نفوسهم وأهواءهم طالبين تغيير أحوالهم، كما يجاهدون أعداء أمتهم.

ونقض هذه الدعوى يكون بإبراز قيمة الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في فكر الرجلين وممارستهما. فلا تجتمع هذه المعاني على مستوى التنظير والتطبيق في شخص ثم يصح أن تُطلق عليه مثل هذه الدعوى الجائرة..

"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الأمراء والسلاطين.. وأما تخشين القول.. فإن كان لا يخاف إلا على نفسه فهو جائز بل مندوب إليه فقد كان من عادة السلف التعرض للأخطار والتصريح بالإنكار". [إحياء علوم الدين]

لا يصح لـ"درويش" كالغزالي أن يقرر في كتاب مفاهيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم يتناول الإنكار على السلاطين والأمراء بمثل هذا فهو ناقضُ لمبادئ الدروشة والخمول.

ولا يصح من "درويش" أن يكتب لأحد أمراء المسلمين كيوسف بن تاشفين يحرضه على ضرورة الجهاد وإنقاذ الأندلس. وقد نقل الأستاذ الكبير محمد عبد الله عنان المتخصص بتاريخ الأندلس الرسالة في كتابه دولة الإسلام في الأندلس.

وليس من سمت "الدراويش" في شيء الكتابة إلى الأمراء والوزراء والإنكار عليهم بلغة التقريع في التفريط في بعض أحوال المسملين كما نجد ذلك في رسائل الغزالي الفارسية.

أما طه عبد الرحمن فليس من عادة المساهمين في "تمسيح الدين وإماتته" أن يتناولوا مفاهيم الجهاد بالتأصيل. ولا أن يكتبوا مثل:

"أما أبناء الأمة المؤمنة المجاهدة فلا تستعبدهم عوائق ولا عقبات؛ فهم يجاهدون عوائق الباطل والظلم كما يجاهدون عقبات الحق والعدل، ويجاهدون نفوسهم وأهواءهم طالبين تغيير أحوالهم، كما يجاهدون أعداء أمتهم وضلالاتهم. ويجاهدون الأصدقاء كما يجاهدون الأعداء، آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر، ويجاهدون بألسنتهم وأقلامهم كما يجاهدون بأنفسهم وأموالهم.. ويجاهدون بكتب منزلة وفي سبيل من أنزلها، كما يجاهدون بسير نبوية وفي سبيل من جاء بها".

"على أن هذه الأمة المجاهدة لا تقف عند الصبر على المشاق الضرورية والكلف المختارة وحدها، بل تتجاوز ذلك إلى الصبر على المشاق المؤذية والكلف المرهقة فمتى جاهد أبناؤها بألسنتهم وأقلامهم جاهرين بالحق عند الظلمة أو كاشفين لباطل لدى الجهلة لم يأمنوا أن يؤذوهم هؤلاء ظلما وجهالة، ومع هذا فهم يصبرون لما يتعرضون له من ألوان الأذى والأمة الصابرة على الأذى تصير نموذجا للمعاناة يُحتذى بها في الضراء. ومتى جاهد أبناؤها بأموالهم وأنفسهم منفقين على جهازها أو مواجهين لأعدائها لم تأمن أن يرهقها الأعداء في العدة والكثرة. ومع هذا فهي تصبر على ما تجد من أشكال الإرهاق، والأمة الصابرة على الإرهاق تصبح نموذجا للشجاعة يُقتدى به في الضراء" الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري.

أليس من المدهش أن ترى الإسلامي مستميتًا في الدفاع على منتوج غربي مسيحي يرى فيه الخلاص لدولة الإسلام، ومسيحي آخر ينتقد ما أنتجه أبناء دينه؟ وإن شئت فاعجب مرتين إلى تحويل هذا الدفاع إلى هجوم على حلاق.

وليقرأ الأستاذ إن شاء مقدمة كتاب طه عبد الرحمن والتي ابتدأ فيها مشروعه في تجديد العقل والعمل الديني ليعرف ما السؤال والهم الذي حرك الرجل ونقله من عالم الشعر والخطابة إلى عالم الفلسفة والمنطق. لم يكن شيئًا غير نصرة وتأييدًا وترشيدًا لـ"اليقظة الإسلامية".

وليس من دأب "المتصوفة الميتين" أن يحاضروا عن العراق أيام مقاومة العراقيين العدوان الأميركي حتى يتهمهم بعض بالإرهاب. كما حدث لطه عبد الرحمن.

وليس من عادة أرباب الفلسفة الباردة المغرقة في التأمل والانعزال أن يكتبوا كتابًا عن الحداثة والمقاومة لو قرأه الأستاذ لعرف دور الفيلسوف الناسك وموقفه من قضايا أمته.

ألا تكفي هذه الأمثلة على فساد دعوى الأستاذ أم أن التبرئة من التهمة لا تحصل إلا بمثل "لا يبغض أردوغان إلا منافق" فدون هذه عقول وأناة ومراعاة لمعاني الشرع فلا يطمع الأستاذ فيها.

هل كان يجهل الأستاذ هذا؟ ربما. ولكن سوء الفهم الذي لازمه في قراءته لحلاق والعجلة في الكتابة لأفكار غير ناضجه منعه من التعرف والتأمل في المواقف وفهم تعدد الأدوار وضرورتها.

إن آفة الاستغراق في النضال السياسي ومتابعة جنون المستبدين وإعلامهم تأزيمه للعقل وحد آفاقه. وإلا فاستيعاب تعدد الجبهات والثغور في مقاومة العدو والتصدي له لا ينحصر في دور واحد. حين كتب زكي مبارك في كتابه الأخلاق عند الغزالي هازئًا بحجة الإسلام: في الوقت الذي كان بطرس الناسك يحرض الصليبيين على غزو القدس كان الغزالي ينعم بخلوته في مأذنة الجامع الأموي! لم يكن يدرك هذا المعنى الذي يكاد يكون بديهيًا.

لقد اتخذ الغزالي خيارًا ومشروعًا محددًا وهو إعادة إحياء الدين وبناء الإنسان الذي جاء الشرع لإنشائه بعد أن غلب علماء الرسوم والظواهر على المشهد الإسلامي وصار الإسلام مجموعة من المسائل العقدية الجدلية وعبادات رياضية لا روح لها. ولم يكن خياره هذا مبنيًا على أساس قلة مبالاة بالمسلمين وبمصالحهم ودمائهم فسيرة الرجل وما كتبه تنفي عنه هذه الاتهام، ولكن ترتيب الأوليات كان مختلفا لديه ورأى أنه يقوم على ثغر لا يقوم عليه أحد غيره وأخذ في إعادة البناء الداخلي.
إني أغارُ على مكانيَ أن أرى ** فيهِ رجالًا لا تسد مكاني.

من يريد من طه كل شيء فقد ظلم طه. طه فيلسوف ومنطقي بارع صناعته التأصيل والتأطير للمفاهيم ولم يقم إلى اليوم له أحدٌ في العالم العربي ليتناول نقده بجدية وهذا لأن الرجل يحسن ترتيب وبناء حججه.

وقد كان من ثمرة هذا الإحياء والمشروع المبارك أثر حقيقي يعرفه الدارسون على تكوين صلاح الدين الأيوبي وجيله المحرر للقدس والكاسر للصليبيين. فلو انشغل الغزالي بالنضال السياسي لكان واحدًا من عشرات الآلاف الذين سدوا هذا الثغر ولعدمنا مشروعه الفارق في التاريخ الإسلامي.

لا يكاد المرء يفرغ من عجب من كتابات الشنقيطي حتى يتحفه الكاتب بعجيبة أخرى. أليس من المدهش أن ترى الإسلامي مستميتًا في الدفاع على منتوج غربي مسيحي يرى فيه الخلاص لدولة الإسلام، ومسيحي آخر ينتقد ما أنتجه أبناء دينه؟ وإن شئت فاعجب مرتين إلى تحويل هذا الدفاع إلى هجوم على حلاق وتأثره بأعظم ما أنتجه العقل المسلم في نقد العلمانية نقدا أصيلا مذ كانت العلمانية وتقديم المفاهيم البديلة من صلب الفلسفة الإسلامية ببناء منطقي وفلسفي محكم لم يقدر عليه غير طه ولا يحسنه أكثر الإسلاميين. وبدلا من الحفاوة بهذا النقد والعمل على تطوير هذه المفاهيم وإيجاد تطبيقات لها لتحقيق النهضة الإسلامية، تشاغل أكثر الإسلاميين بردها واختلاق مناوشات داخليه والمعركة قائمة عليهم.
وإلا فمشروع طه في بناء مفهوم للإنسان حقيق بالاحتفاء والتطوير والتبني من الإسلاميين.

"ومن الصعب حصر المواضع التي نبّهنا فيها طه عبد الرحمن -في مجمل أعماله- إلى تسلل الأثر المسيحي داخل الفكر الفلسفي والسياسي والأخلاقي بل وحتى الفني والإعلامي، وهو تنبيهات مدللة وموضحة وليست مجرد كلام يرسله إرسالا".

إكراهات الواقع والحلول الممكنة وأهمية الإبداع:
يسيء المستبد في إدارة وتصريف الموارد الطبيعية لمصالحه الخاصة، ويسيء كثيرُ من أصحاب المشروع الإسلامي في إدارة والاستفادة من الموارد الفكرية بسبب المصالح الحزبية المتوهمة.

من الطريف أني بالأمس حضرت مؤتمرًا عن طه عبد الرحمن وقدمت فيه ورقة. ولفتني التجاذب السلبي الذي حصل بين محبي طه ومنتقديه من إسلاميين في تجاهل أهمية الأدوار. حين جاء موعد تقديم ورقتي علقتُ بأن من يريد من طه كل شيء فقد ظلم طه. طه فيلسوف ومنطقي بارع صناعته التأصيل والتأطير للمفاهيم ولم يقم إلى اليوم له أحدٌ في العالم العربي ليتناول نقده بجدية وهذا لأن الرجل يحسن ترتيب وبناء حججه ببناء منطقي محكم. فمن أراد أن ينتقده فليتقدم فالساحة تتسع والمستفيد من هذا هو الفكر الإسلامي، أما محبيه فإن خدمتهم لشيخهم لا تكون بالمريدية الباردة وإنما باستثمار هذا الإبداع النظري والمفاهيمي وتقريبه للواقع بآليات وتطبيقات فبهذا تنهض الأمم. ثم إني قرأت بعد المؤتمر مقال الأستاذ الشنقيطي فأدركت أن الخلل أكبر من خلاف في قاعة.

كتب الأستاذ الشنقيطي مقالاته التي تطغى الحماسة فيها على العقل والتأني وكان قريب عهد بالكتابة عن البصيرة في تقويم الجهاديين وحماستهم. فكان حقَا علينا أن نذكره بخطابه، ونعظه بموعظته، وليس ينقصنا كتّاب حماسيون يفكرون بأيديهم، فالعدو والمستبد يتربصان وتوحيد الخصم ومواجهته أولى من الحماسة في غير محلها، والعقل لا يزال محمودًا ما لم يلبس ثوب الجبن والخور.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.