شعار قسم مدونات

في "مسرح" عدنان إبراهيم

blogs عدنان ابراهيم

حين كنا نتحدث عن داعش لاحظنا باتفاق أنّ جزءًا كبيرا من إقناعها للشباب الصغير كان يكمن في أدائها السينمائي الذي تجلّى في عدة أفلام أحدثت ضجّة عظيمة في وقتها. إنّ مقطعًا من "الأكشن" كان كفيلا بإقناع شاب تربّى على الأفلام الأمريكية واحتدّت مشاعره الدينية بالانضمام لداعش. فلم يعتدْ معظم شبابنا العربي مع الأسف على محاكمة الأفكار والتوجهات من خلال عملية فكرية تحتاج إلى جهد وكدّ وقراءة واطلاع، وهي الثغرة التي نفذت منها الكثير من الأطروحات المعاصرة لعقول الشباب، وفي هذه التدوينة سأبيّن بأنّ انتشار أفكار الدكتور عدنان إبراهيم لم يحدث بشكل أساسي لتماسك أفكاره علميا وبرهانيّا، بل لسببين رئيسيين:

 

أولا: أنّه يتمتّع بأداء خطابي متمكّن، يمكن تشبيهه لقوته وسطوته بـ "الأداء المسرحي"، وقد استطاع من خلاله إقناع المخاطَب حتى وإنْ كانت أفكاره تتضادّ مع البراهين الواضحة، وحتى لو كان يفتقد لمنهجية متّسقة في الاستدلال كما سنرى.

 

ثانيا: أنّه خطاب يدغدغ مشاعر المشاهد العربي ويحكي أفكاره بقالب عاطفي مشحون بنبرة لَوْم تخلّفنا وتحجّرنا، وهذه النبرة هي بمثابة "كليشيه" ناجح حتى هذه اللحظة!

 

أما أداء الدكتور عدنان إبراهيم فهو يتألف من عدّة قوالب أسلوبية يمرّر من خلالها أفكاره. فمَن منّا لا يذكر تلك الكلمة التي يختم بها الدكتور عدنان أحيانا بعض عباراته، وهي كلمة "عجيييييب"، طبعا مع استدارة شفتيه وحملقة عينيه، مما يجذب المشاهد حتمًا من عينيه وأذنيه لجعله أقرب للاقتناع بما يقوله الدكتور. ولكن من ناحية المضمون العلمي، ما الذي أضافه هذا الأداء؟ لا شيء!

 

مثال آخر: جميعنا يعلم أنّ للدكتور عدنان موقفا خاصا من الكثير من الأحاديث الصحيحة، فهو يردّها عند أهون سبب، وعادة ما يكون السبب أنّ عقله لا يصدّق محتوى هذا الحديث، فيحكم ببساطة أنّه ليس حديثًا! وفي مثال شهير كان الدكتور عدنان يحكي اعتقاده بأنّه يكفي أهل الكتاب بحسب الإسلام "تصديق" الرسول صلى الله عليه وسلّم ليدخلوا الجنة وليكونوا مقبولين عند الله. ورغم أنّ الفكرة غير منطقية؛ إذ لا يكفي حتى المسلم مجرّد التصديق، والله عز وجلّ يقول: {وما أرسلنا من رسول إلا ليُطاع بإذن الله} (النساء: 64) وليس ليُصدَّق.

 

يتحدّث الدكتور عدنان عن تعدّد الزوجات، ورغم كونه مباحا في الشرع، ووجود عدد كبير جدا من كبار الصحابة ممن عدّد، ولم يقل أحدٌ بتحريمه، إلا أنّ الدكتور وبشكل مدهش يسرد علينا قصصا عن بعض العلماء الذين ذمّوا التعدّد

وإنّ الطفل الذي يأمره أبوه بالدراسة للامتحان وهو جالس أمام التلفاز فيقول له: صدّقتُك، ويظلّ جالسًا لا يكون قد أطاع والده! أقول: بغضّ النظر عن المغالطة العلمية الواضحة في هذه الفكرة، إلا أنّ الدكتور يردّ في سياقها الأحاديث الصحيحة الواردة بشأنها ويقول ببساطة: أحاديث آحاد، فضلا عن الآيات الواضحة الواردة في بيان حقيقة الإيمان وأنها ليست مجرّد تصديق خبر الرسول، بل طاعته والانقياد للشرع أيضا. ولا ننسى هنا بالطبع دور النبرة والتعبيرات التي تظهر على وجه الدكتور لتمرير فكرته هذه رغم تهافتها.

 

في سياق آخر يتحدّث الدكتور عدنان عن تعدّد الزوجات، ورغم كونه مباحا في الشرع، ووجود عدد كبير جدا من كبار الصحابة ممن عدّد، ورسوخ هذا الحكم عبر أكثر من ألف عام في الفقه الإسلامي على خلافات يسيرة بين الفقهاء ولم يقل أحدٌ بتحريمه، إلا أنّ الدكتور وبشكل مدهش يسرد علينا قصصا عن بعض العلماء الذين ذمّوا التعدّد، واعتبرَ من يقوم به ماضيا للهلاك، فيقول مثلا: "أنت تخاطِر بدينك، فضلا عن أنّك تخاطر بماذا؟ ببدنك وصحّتك وعقلك واستقرارك"! فهل كان المعدّدون على مرّ التاريخ – ومن بينهم كبار الصحابة والتابعون وتابعوهم والصالحون والعلماء – مخاطرين بدينهم وصحّتهم وعقولهم؟! وقد استدلّ الدكتور من بين ما استدلّ به ببيت شعر يقول:

تزوّجتُ اثنتين لِفَرْط جهلي .. وقد حاز البلى زوج اثنتينِ

 

العجيب أنّ الدكتور عدنان يذمّ التعدد بشكل شديد جدّا ليصل إلى تفضيل حظره، ويحشد له ما لملم من القصص التراثية التي تأتي في سياق "الأدب" وليس في سياق "الفقه"، فهي أدبيات يتداولها الناس سواء لطرافتها أو لأخذ العبر الحياتية، ولكنها ليست مصدرا للتشريع بالاتفاق. لكن الدكتور عدنان يحشدها كأدلّة على ذمّ التعدد. ولست معنيّا في هذه التدوينة بموضوع التعدّد ولا موضوع حقيقة الإيمان في المثال السابق، ولكني أهدف إلى الجمع بين المثالين للكشف عن مغالطة عظيمة تكمن في طرح الدكتور عدنان، وهي أنّه ليست لديه منهجية علمية في الاستدلال على أفكاره.

 

ففي المثال الأول (حقيقة الإيمان) يعارض مسألة تواترت عليها أدلة القرآن والسنة وأجمع عليها العلماء، ويردّ بسهولة الأحاديث الصحيحة فيها ويتغافل عن الآيات الواردة بشأنها. وفي المثال الثاني (التعدّد) يذمّ حكم التعدد بمرويّات عن علماء وفقهاء وشعراء! فبينما لم تكن الآيات والأحاديث الصحيحة وإجماع العلماء دليلا كافيًا في المثال الأول، أصبحت المروياتُ الأدبية عن بعض العلماء والشعراء دليلا أو في معرض الدليل في المثال الثاني! فكيف يمكن إقناع الناس مع هذا الخلل في منهجية الاستدلال العلمي؟ الأمر سهل جدّا، لا بدّ من أداء متمكّن يجيد استخدام النبرة ولغة الجسد، فيُغشّي على المتلقّي تلك الحقيقة المفزعة حول افتقاد الدكتور عدنان للمنهجية العلمية، ويجعله مسحورا بالأسلوب وحُسن الخطاب! والأمر هنا لا يتعلق بأنّ القضية الأولى عقدية والثانية فقهية، بل مَن يتابع الدكتور سيجد هذا الأسلوب في حشد الأدلة أيّا كان مصدرها لنصرة رأيه بدون منهجية علمية، لكن الأمر يحتاج إلى متابعة مع فلترة الأسلوب الخطابي والعناصر البلاغية ولغة الجسد!

 

الذي لديه موقف من المشايخ أو الحركات الإسلامية على اختلاف توجهاتها سيجد مطلبه في خطاب الدكتور عدنان. والذي يواجه صعوبة في مقاومة أهوائه واحتمال الكثير من الأفكار والأحكام الإسلامية الثابتة في الكتاب والسنة، سيجد أيضا بغيته عند الدكتور عدنان

ولا يسع المقام هنا طرح أمثلة أخرى، فهو أمرٌ أعتمد فيه على نباهة القارئ، وأريد الآن الانتقال إلى السبب الثاني المركزي لانتشار خطاب الدكتور عدنان، وهو كما ذكرت: دغدغة مشاعر المشاهد العربي وحكاية أفكاره بقالب أسلوبي مشحون بنبرة لَوْم تخلّفنا وتحجّرنا. هل تذكرون ذلك المقطع الذي انتشر كالنار في الهشيم للدكتور تحت عناوين من مثل "أجمل ما سمعت" أو "من روائع الدكتور عدنان إبراهيم"، والذي عادة ما يرفعه المعجبون مع موسيقى حزينة مؤثّرة؟ أمّا مضمون المقطع فهو توصيف لحال الأمة المتخلف، ولدرجة الانحطاط التي وصلنا إليها.

 

وهذه النبرة تلقى رواجا لدى الناس في العالم العربي بشكل كبير، وهي مدار حديث الناس حين يتطرّقون إلى القضايا السياسية والدينية في مجالسهم. فالذي لديه موقف من المشايخ أو الحركات الإسلامية على اختلاف توجهاتها سيجد مطلبه في خطاب الدكتور عدنان. والذي يواجه صعوبة في مقاومة أهوائه واحتمال الكثير من الأفكار والأحكام الإسلامية الثابتة في الكتاب والسنة، سيجد أيضا بغيته عند الدكتور عدنان، وسيجد خطابه يخفّف عنه عبء الكثير من هذه الأحكام دون أن يشعر بذنب ترك أمور من الدين، ففي خطاب الدكتور تم الاكتشاف بأنها أساسا ليست من الدين! أما الذي يبحث عن طرق النهوض وآليات العمل للخروج من هذا النفق المظلم الذي تعيشه الأمة من الانحطاط والتخلّف، فلن يجد مع الأسف في خطاب الدكتور بغيته! أليس غريبًا إذن أن يحدّثنا الدكتور عدنان دائما عن العقل والتفكير، ثم نجده متمترسًا وراء أسلوب خطابي عاطفي يُقيم عليه بنيان أفكاره؟!

 

إنّ المساحات التي يتحرّك فيها خطاب الدكتور عدنان هي مساحات الرغبة عند الناس، أي أن تقول ما يقوله الناس وما يشعرون به فعلا. فالكثير من الناس يحبّون الاستماع إلى ما يعتقدونه ويردّدونه، وفي هذه الحالة لا يكون الخطاب قد فعل شيئا أكثر من دغدغة مشاعرهم. ولذلك نجد الإقبال كبيرا على مثل هذا الخطاب الذي يُشبع هذه المشاعر عند الناس؛ لأنّ طلاب الدغدغة أكثر من طلاب الحقيقة مع الأسف!

 

لكي تنهض الأمة من جديد، فإنّها تحتاج إلى إعادة ضبط مصادر العلم والمعرفة، وإجادة استخدام أدوات تحصيل العلم بالأشياء والأخبار والأحداث

لا أهدف في هذه التدوينة إلى التخذيل عن الاستماع للدكتور عدنان، فلم أكن أنا شخصيا لأصلَ إلى ما وصلت إليه هنا دون الاستماع إلى ساعات طويلة له وهو يخطب ببلاغة ويخترق مساحات فضولي ويمسك بتلابيب انتباهي إمساكًا يصعب الإفلات منه! ولكني أودّ توجيه رسالة إلى الشباب، وهي ضرورة التزوّد بأدوات العلم والصبر على القراءة الفكرية العميقة، بعد التأسّس بطبيعة الحال بالعلوم الإسلامية بدءًا من علوم القرآن والسنة، مرورا بالفقه والأصول وغيرها من العلوم؛ فالأدوات العلمية الواضحة والمنهجية العلمية في محاكمة الآراء والأفكار كفيلةٌ بكشف زيف أي فكرة حتى لو كان أسلوب عرضها ساحرًا أخّاذا، وحتى لو كان أداء صاحبها مميّزا. والثقافة الشرعية والفكرية تصقل العقل وتُكسِبه مناعة راسخة في مواجهة التناول العاطفي للقضايا العلمية والفكرية، فتمكّنه من فرز الأفكارِ عن قوالبها الأسلوبية، والمضامينِ عن أدائها العاطفي، والمعاني عن المحسّنات البلاغية.

 

ولكي تنهض الأمة من جديد، فإنّها تحتاج إلى إعادة ضبط مصادر العلم والمعرفة، وإجادة استخدام أدوات تحصيل العلم بالأشياء والأخبار والأحداث. ومتى تمكّن شبابنا من هذه الأدوات فلن تخدعه وسيلة إعلامية أو خطابٌ ساحر الأسلوب، وسيكون حينها دائب البحث عن الأدلة والبراهين، لا يُسلّم لأحد برأي إلا بعد التوثّق منه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.