شعار قسم مدونات

زغلول النجار وممانعات الإعجاز العلمي

blogs-زغلول النجار
لا يبدو لي أن ما حدث ما لفضيلة الدكتور زغلول النجار بجامعة فاس أمراً جيداً أو صحياً كما يرى ذلك بعض الفضلاء، فعزيزٌ على النفس أن ترى من يحملون همّ هذا الدين يُسفَّه رأيهم وتُنكر جهودهم، فإنه وإن اختلفت الآراء فلابد أن يحفظ فضل السبق بالعلم والدعوة لأهله.

لماذا كل هذه الحملات الضارية والممانعات الصارمة لقضية الإعجاز العلمي القرآني من الداخل والخارج الإسلامي، ويكأنه مصدر كل كارثة وسبب كل فجيعة، لقد سأم الناس هذه الممانعات التاريخية التي يتكفل الزمان بإبطالها.. ممانعات الجديد والقلق من الحديث والشك فيما لم يُحط بعلمه، فليست الممانعات التاريخية مقتصرة على ما يروى من الممانعات الكنسية للمكتشفات العلمية.

بل وجدت ممانعات فقهية في المدونة الإسلامية كممانعات التشريح الطبي الذي فرض ضرورته بعد ذلك، وممانعات عريضة للتصوير الفوتوغرافي الذي فرض الواقع إباحته أيضا، بل قد وجدت ممانعات عجيبة للملاعق وأدوات الطعام في حقبة من حقبه التاريخ التشريعي.. ألا نتعلم أن نتريث قليلا قبل هذه الممانعات السطحية، أم يتكفل بنا الزمان أيضا ليعلمنا أن ممانعة الإعجاز العلمي عجز ورأي خائب وسدٌ لروزنة من النور المبين.

المسار الصحيح أن الإعجاز لا يسبق البحث العلمي كما يفعل بعض المشتغلين به لإحراز سبق علمي إسلامي مزعوم، فهذا مسار منحرف، بل البحث العلمي الجاد يأتي أولا.

فمن يمنع الإعجاز العلمي في القرآن لظنية دلالته ونظرياته فليحذف من كتب التفاسير ما اختلفت فيه من الدلالات اللفظية والأقوال التفسيرية والنكات البلاغية والأحكام الشرعية، ولينظر هل يتبقى له شيء ذو بال يصلح أن يقدمه كمدونة تفسيرية شاملة؟

ومن يمنع الإعجاز العلمي لمآلاته المزعومة فليمنع فريضة الجهاد إذن من الدين لسوء مآلاتها المعاصرة فيما يبدو، وليمنع كل قضية شرعية يمكن أن تساق لتمرير المآرب، وليكن كأحذية السلاطين الذين يقولون بإلغاء التربية الدينية من المناهج لما يزعمونه من المآلات السيئة، لقد فقدنا المآلات الحسنة يوم أن فقدنا البصيرة في تحقيق المناطات.

ومن يمنع الإعجاز العلمي لاستغلال أهل الزيع له والطعن في القرآن بسببه، فليمنع المجاز الذي هو أداة التأويل المركزية للمبتدعة في النص القرآني، وليمنع المنطق الذي هو أداة الجدل المركزية في الحجاج الأصولي الكلامي، وليمنع الفلسفة التي هي أداة المعارضة الكبرى للوحي، بل وليمنع علوم المقاصد لأنها تلغي النصوص الشرعية بزعم الزاعمين.

ومن يمنع الإعجاز العلمي للدعاوى المبطلة فيه، فليمنع كل العلوم إذن، فما من علم إلا وفيه دعاوى باطلة وآراء مجهلة وأقوال مستكرهة، بل فليمنع النص القرآني نفسه من الوجود، فكم من الدعاوى المبطلة التي قيلت باسم النص القرآني.

ومن يمنع الإعجاز العلمي لأن القرآن ليس كتاب فيزياء أو بيولوجيا أو غير ذلك من العلوم الطبيعية نقول له: صدقت، فالقرآن كتاب نور وهداية، ولكن من الهدى والنور أن ترى الحق عيانًا وتتيقن به ثم تجد موافقة لهذا الحق في كتاب سماوي، لذلك دمعت أعين النصارى عندما عرفوا الحق ثم وجدوه في الإسلام غضاً كما قال تعالى "وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق"، لأنهم وجدوا توافقا لرسالة الإسلام مع ما قاله نبي الله عيسى عليه السلام، فعلموا أنها مشكاة واحدة، بل على هذا خلق الله الخلق وفطر الناس بأن أودع في قلوبهم منظومة الحق في عالم الذر وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم، ليؤمن الناس بعد ذلك بما يجدونه في قلوبهم من توافق هذه الفطرة والحق المغروس في القلوب مع ما جاءت به الرسل، ليلتقي نور الوحي على نور الفطرة.

فمن يمنع الإعجاز العلمي في القرآن لظنية دلالته ونظرياته فليحذف من كتب التفاسير ما اختلفت فيه من الدلالات اللفظية والأقوال التفسيرية والنكات البلاغية!

لذلك فالمسار الصحيح أن الإعجاز لا يسبق البحث العلمي كما يفعل بعض المشتغلين به لإحراز سبق علمي إسلامي مزعوم، فهذا مسار منحرف، بل البحث العلمي الجاد يأتي أولا ثم يأتي تصديقه من القرآن وهذا هو المسار الصحيح بخلاف من يقول باستنباط العلوم الطبيعية من القرآن رأسا.

أجل، إنه كتاب نور وهداية قال الله تعالى فيه "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق" وإني لسائل هؤلاء الذين لا يرون الإعجاز العلمي كيف سيُرى الله آياته العظيمة في الكون والنفس البشرية للناس ليبين لهم أن هذا الدين حق؟ وأين أودع الله هذه الآيات إن لم يودعها في القرآن والسنة، أثمّ وحيٌ جديد بعد أن انقطع الوحي أم هو تأويل للآية عن ظاهرها بما فيه مصادرة على المطلوب واستدلال بالتأويل على إبطال التأويل.

وكم من عالم أجنة لما رأى ذلك التوصيف الجنيني في آيات القرآن انبهر وأسلم، أو على الأقل قامت عليه الحجة وتبين له أنه الحق، بل على المستوى الشخصي أرى أن من أعظم الآيات التي يتدفق بها برد اليقين إلى القلب هذه الآيات التي سِيقت لبيان مراحل خلق الإنسان في بطن أمه، فهذه من أعظم الدلالات على أن القرآن كلام الله، حيث قيلت في زمن ليس فيه منظار طبي واحد أو أداة علمية واحدة يمكن بها معرفة هذه التحور الجنيني، وما عرف ذلك أعظم الحضارات في الأرض في ذلك الوقت فضلاً أن يعرفه رجل عربي نشأ أمياً في قوم أميين.

إن اشتراط قطعية الدلالة في النظرية العلمية مع قطعية الثبوت في النص الشرعي مع قطعية الدلالة في المعنى الشرعي للإيمان بالحقائق أشبه بمن يقول لا أومن بوجود الشمس والقمر حتى يُحدثا كسوفاً كلياً في المكان الذي أعيش فيه! فقد لا يؤمن بالشمس والقمر حتى يموت إذن، ومع ذلك وجد مثل ذلك ووجد ما هو دونه!

وكم من عالم أجنة لما رأى ذلك التوصيف الجنيني في آيات القرآن انبهر وأسلم، أو على الأقل قامت عليه الحجة وتبين له أنه الحق.

نعم قد نتفق في وجود الدخن والممارسات الغير مرضية والفقر في الأدوات العلمية ودعاوى المبطلين الجاهلين، بل قد نشكك في اصطلاح الإعجاز العلمي نفسه، لكن كل هذا لن تعدمه في كل العلوم الإنسانية والطبيعية، وهذه كلها إشكالات أبستمولوجية لا أنطولوجية، فهي لا تطعن في كنْه العلوم وصحة وجودها ولكن في جودة مضامينها ونِسَبِ الحق فيها، وإن قصدتم الإنصاف فلم لا تتحدثون عن الآثار الايجابية والفتوح الإيمانية العظيمة كما تتحدثون عن الممارسات السلبية والتي لا تعدو بإزائها حلقة في فلاة.

كيف يُخص الإعجاز القرآني بالإعجاز اللغوي الذي لا يدركه إلا الأقحاح من أهل اللغة، فغير الناطق بالعربية لا يدرك الإعجاز اللغوي في القرآن، بل هو قد لا يدرك معناه أصلا فضلا عن أن يدرك موطن الإعجاز فيه، ومتى تعامل الله مع خلقه بهذا الفئوية والتخصصية؟ ونصوص قضية الإعجاز في القرآن لا تحتمل الحصر في الجانب اللغوي فقوله "على أن يأتوا بمثل هذا القرآن" لا تقييد فيه بالوجه البياني.

وفي هذا يقول ابن كثير رحمه الله "فالقرآن العظيم معجز من وجوه كثيرة: من فصاحته، وبلاغته، ونظمه، وتراكيبه، وأساليبه، وما تضمنه من الأخبار الماضية والمستقبلة، وما اشتمل عليه من الأحكام المحكمة الجلية، والتحدي ببلاغة ألفاظه يخص فصحاء العرب، والتحدي بما اشتمل عليه من المعاني الصحيحة الكاملة- وهي أعظم في التحدي عند كثير من العلماء- يعم جميع أهل الأرض من الملتين أهل الكتاب وغيرهم من أصناف بني آدم في سائر الأقطار والأمصار" البداية والنهاية (6/ 68)

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.