شعار قسم مدونات

صناعة الشخصيات القصصية العربية.. أولوية أم رفاهية؟

blogs- أطفال
لا يخفى على أحد، أننا نشهد اليوم تحديات عظيمة تؤرق كل غيور على الهوية الثقافية العربية خاصة فيما يتعلق بالنشء الجديد. اليوم، يشكل الأطفال تحت سن الرابعة عشر حوالي ثلث سكان الأرض. وهذه النسبة هي ذاتها تقريبا لمعدل هذه الفئة العمرية في الدول العربية، وقد تقل أو تزيد من بلد عربي إلى آخر، حسب بيانات البنك الدولي لعام 2015، (العراق 41 بالمئة، الأردن 36 بالمئة، ليبيا 30 بالمئة، الكويت 22 بالمئة).

وبالنسبة لأعداد كبيرة من هؤلاء الأطفال، فإن جزءًا لا يستهان به ينهل من الثقافة عبر الوسائط الالكترونية المتاحة وما تقدمه من مواد وبرامج تعليمية وترفيهية وغيرها.

ومن المعروف أن ما ينتج لأطفال العالم تهيمن عليه شركات عالمية معدودة هدفها الأساس هو الربح التجاري، تعرف بالعمالقة الثلاثة، إذ تزود هذه الشركات السوق العالمي بأكثر من 50 بالمئة من برامج الأطفال والناشئة مما يجعلها تسيطر على المشهد الثقافي المرئي والمسموع لأطفال العالم بجدارة.

إن هذا المحتوى بشخصياته ومحيطه وعاداته وقيمه بعيد كل البعد عن الحياة اليومية الواقعية التي يعايشها الطفل العربي الذي يحصل على هذا المحتوى.

وعلينا ألا ننسى أو نتناسى ما يرافق هذه البرامج من ألعاب أو كتب الكترونية أو مواد استهلاكية بحتة مرتبطة بشخصيات هذه العروض.

وبلا أدنى شك، فإن هذه الشركات هي ناقلة لمكونات الثقافة التي تنتمي إليها، والتي تمثل في الأغلب ثقافات المجتمعات الأميركية، وإلى حد أقل المجتمعات اليابانية المعاصرة. وفي جميع الأحوال، فإن هذا المحتوى بشخصياته ومحيطه وعاداته وقيمه بعيد كل البعد عن الحياة اليومية الواقعية التي يعايشها الطفل العربي الذي يحصل على هذا المحتوى.

فماذا يعني هذا بالنسبة لأطفال العرب؟

تفيد الإحصائيات بأن ما يقارب أربعين بالمائة من سكان الوطن العربي يستخدمون الإنترنت، مما يعني أن النسبة الأكبر لا تستخدمها، وعليه سأفرض أن كل من لا تصله الإنترنت غير قادر على الوصول إلى المحتوى الإلكتروني التعليمي أو الترفيهي الموجه للأطفال والناشئة.


وهنا أجد نفسي أمام أمرين خطيرين:

الأولأن هذه البرامج العالمية، وعبر شخصياتها التي يحبها الأطفال المشاهدون قد ساهمت في توسيع الفجوة ثقافيا واجتماعيا بين أطفال الوطن الواحد.


الثاني: هو تشويش الهوية الثقافية لدى الطفل المشاهد الذي ينهل من هذه الثقافة المهيمنة عالميا وإرباكه، إذ أنه سيجد نفسه يتمثل بهذه الشخصيات العالمية ويتماهى معها، ولا يدري أهو ينتمي لما يشاهد أم لبيئته ومحيطه الجغرافي.


وأزعم هنا، إن هذه الشركات العالمية العملاقة والمتفوقة فنيا وماديا وإداريا على قنوات التلفاز المحلية العربية، قد دفعت الكثيرين إلى النظر بدونية لما تقدمه القنوات المحلية من برامج للأطفال، فهجروها لإخفاقها في المواكبة والإدهاش، وخلقت قناعة لدى الكثيرين بأن منافسة هذه الشركات أمر شبه مستحيل.


فاستسلمنا لهذا السيل الجارف من محتوى دخيل، واستسهلنا شراءه لتعبئة المساحات الزمنية على شاشاتنا فالتهمه أطفالنا بسمّه ودسمه، ونهلوا من أفكاره وقيَمه، وتعلقوا بشخصياته التي عززت النزعات الاستهلاكية لديهم بما يرافقها من ألعاب وبضائع مرتبطة بها. 


إن هذه الشخصيات القصصية التي تعلّق بها أطفالنا تشكل مصدر قلق ليس فقط لنا نحن كعرب مستهلكين، وإنما أيضا لدى كثيرين من المثقفين في البلاد التي أنتجتها، وقد ذهب بعض المفكرين إلى أن ثقافة الطفل الغربي فشلت في أن تواكب التقدم العلمي والمادي، إذ أن هذه الوسائط التي ينهل منها الطفل الغربي ثقافته، وفي مقدمتها برامج وعروض التلفاز وما يتبع لها من ألعاب بمجسماتها الحسية أو الالكترونية لم تساهم في خلق جيل مثقف مستنير همه رفع نوعية الحياة الإنسانية ومستواها على هذا الكوكب. 


لعلنا ممن يحلمون ويطمحون ليس فقط فيما يجمع أبناء الوطن الواحد ثقافيا واجتماعيا، وإنما فيما يجمع أطفال العرب جميعا من محيطهم إلى خليجهم عبر شخصيات قصصية عربية تشبههم وتتكلم لغتهم وتوظف القواسم المشتركة بينهم، فتؤسس لما يوحدهم متجاوزة حدود الدولة وخطوط الخرائط.

وفي محاولات يثنى عليها نشطت العديد من الدول النامية لتقديم البدائل وتمثيل ثقافتها المحلية عبر برامج منافسة بديلة على شاشاتها الوطنية تجمع أبناء الوطن الواحد، منها على سبيل المثال لا الحصر، تجربة ناجعة هي الأولى والوحيدة حتى الآن في جنوب إفريقيا، قدمت دراما تلفزيونية موجهة للفتيان باسم ييزو ييزو، وبثتها محطة التلفاز الوطنية هناك.


إذ عرضت حياة فتيان سود يرتادون مدرسة في مدينة جوهانسبرغ، عبر أربع شخصيات رئيسة وما يتعرضون إليه من مصاعب وتحديات تعكس واقعهم، وتقودهم إلى خوض مغامرات ذات صلة وثيقة ببيئتهم وثقافتهم.


إن أهمية هذه الشخصيات القصصية لا تكمن فقط في أنها تجمع شباب الوطن الواحد وتوحدهم في متابعتها، وإنما أيضا لأن الفتى الجنوب إفريقي يرى محيطه ومجتمعه وقضاياه والشخصيات التي تشبهه معترف بها على الشاشة. 

والحق يقال، أن هناك العديد من المحاولات في العالم العربي التي سعت وما زالت لإيجاد البدائل، لكنها تبقى محاولات ناعمة في مواجهة الغول الأكبر.

ولعلنا ممن يحلمون ويطمحون ليس فقط فيما يجمع أبناء الوطن الواحد ثقافيا واجتماعيا، وإنما فيما يجمع أطفال العرب جميعا من محيطهم إلى خليجهم عبر شخصيات قصصية عربية تشبههم وتتكلم لغتهم وتوظف القواسم المشتركة بينهم، فتؤسس لما يوحدهم متجاوزة حدود الدولة وخطوط الخرائط.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.