شعار قسم مدونات

تأملات في "السيلفي"

blogs-selfie
"قالها المعلم شوقي مع تنهيدة تنضح تبصرا: أتعلم يا بني ما هي أول قيمة يعايشها الإنسان؟ قلت بارتباك: لست أدري، قل لي يا معلم! قال: إنه الوجود يا عزيزي، الوجود به تعرف كل موجود، به تحب وتكره، به تنتهز فرصتك، تعمل أو تكسل، تكون مختارا أو مجبراً، به تظهر شخصيتك، ويتضح كيانك.

إنه نقطة الترجيح من العدم، كفة ترجح معلنة وجود مشروع يحمل التناقضات كلها، يحوز العوالم باتساع فضاءاتها، إنه لحظة النطق بانتصار الفعل على اللافعل، واكتساح الشعور بالامتلاء، به تثبت القيم، وعليه توزن الهمم. إنه النبراس الذي لا ينمحي واللصيق الذي لا يستحي، إنه تفجر الصراع وانبعاث الطاقات.

ثم طأطأ رأسه قائلا: أتعلم لم الناس مهووسة بالتقاط "السيلفي"؟ 
قلت: للمتعة وتسجيل اللحظات 
قال: هذا يظهر للوهلة الأولى، لكن اعلم أن عشق الإنسان لمعاينة وجوده وإعلانه لغيره هو مكنون يؤزه أزا، إن الإنسان لا يستطيع إلا أن يوجد، لا يقدر إلا أن يفعل، ولم يجبر إلا على أن يكون مختار، والاختيار في أعمق أركانه يؤكد الوجود. 

"السيلفي" محاولة تعكس همّا متجذرا في النفس، إنه سعي لإظهار الذات وتحقيق الدعاية لموجوداتها، إنه صراخ في محيط العدم وسياقات الوجود الأخرى تقول إنني (أنا)، لن تتخطفني مزالق التهميش.

تنادي الإرادة بوجودها عن طريق الاختيار، محاولة الخروج من شراك الزمن تخليدا لوجود الانسان. هو إذا طريقة لإثبات تحرره من عقبات حتمية الزمان والمكان، هو محاولة اطمئنان من تأزم كيان وضياع عمر، تراه ينظر إلى نفسه، هل هذا هو الكيان الذي أحمله، أم أنه يحملني، أم أن قدرنا أن نكون رفيقين في مشروع البحث عن الحقيقة.

إن عشق السيلفي يؤكد توق الإنسان إلى ذاته ويبرز حاجة في دواخله النفسية لعرض تلك الذات على ما حوله؛ فتراه يوازن بين ما هو كائن عليه وما ينبغي له أن يكون. ليأتي "السيلفي" وسيلة سد الفجوة بين الحاضر والمستقبل. هو إذا -وفي بعض تجلياته- آلة الزمن التي تخلد اللحظة ،لا كفترة زمنية معاشة، بل التسامي عن ذلك بلانهائية العواطف التي يمر بها، عفوا أيها الحيز، لقد قيدتني بحتمية لا تقبل الانفكاك، أطلقت أمالي وحررت آلامي، وأبقيتني أناكف تجليات الصراع ورهبة الكينونة التي لم أفهم سرها بعد، هي إذا محاولة اعتراض على حتمية الزمن، واطمئنان على كيان لم أختر وجوده.

إنها محاولة تعكس همّا متجذرا في النفس، إنه سعي لإظهار الذات وتحقيق الدعاية لموجوداتها، إنه صراخ في محيط العدم وسياقات الوجود الأخرى تقول إنني (أنا)، لن تتخطفني مزالق التهميش، أنا مركز الحدث، أنا الزمان والمكان، أنا العنوان وبيت القصيد، أنا البطولة في حفل توزيع الذوات…

أنا الصورة والمصور، أنا الحدث والمحدث، الراوي والرواية، الكلام والمتكلم، أنا السامع والمسموع، أنا الناظر والمنظور، أنا الذات والموضوع، أنا الوجود، والوجود أنا… لكم قربت من فرقاء يا عزيزي (السيلفي)!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.