شعار قسم مدونات

عفو الخاطر!

blogs - love
كم هُو غباءٌ أن تستحوذَ عليكَ الـأمانيّ وتُقعدَك الظُّنونُ وتأسركَ الأوهام، فبينما أنت جالسٌ على حافّة نهرِ الأملِ مُفترشًا الإمهالَ ومُتدثّرًا حسن الظّن إذ بسحابِ الرّيبةِ يتسلّلُ بينَ أشجارِ الخريفِ مُعلنًا قُدومَ ثقيلٍ أقرعَ ذا طِمرينِ وكِرش!

ويتصدّى لكَ في غباءِ فقمةٍ ودهشة سنجابٍ: – ماذا تنتظِرُ هُنا في هذا المكانِ الكئيب؟ – عفوا! وما دخلُك؟  أنتظِر اللّاشيء في لامكان، أو إن شئتَ فقل المُستحيلَ عندَ العدم. – منذُ متَى وأنتَ هُنا بحالكَ التي أرى؟بمعطَفكَ المثقوبِ وبنطالِكَ المجذوبِ وخرقةِ رأسكَ التي اندرست معالِمُها و …

– أنا: أنا هُنَا مُذ عقلتُ ومُذ عاهدتُ ومذ فُطمتُ وقبلَ الولادة… ( فتَح فاهٌ مُعلِنا عجزَهُ -الفطريّ- عن درك المقصود) – وقبلَ الولادة؟ – ولادَةُ الحنينِ للحبيبِ والإيمانِ بلحظاتِ الماضي الورديّة وخيانات الحاضر القاتمة .. الأمرُ فقط أنّني أدركتُ مُتأخّرًا كونَ البذلِ والوفاء ركائزُ الخُلَّةِ والبقاء، وأنّ الإعراضَ عن القناعةِ رأسُ كُلِّ رزيّة لهذا الآدميّ البائس العجُول. – أفصِح يا بُنيّ وأعذرني لبلادَتي، فهكذا هم أبناء الثّمانين.. – حسنا، فقط لأنّك اعترفتَ بأنّكم -جيلَ الآباء- مجموعة ذكُور براغماتيّة نُخبويّة وحمقاء..  ما علينا …

لم يعلمِ المسكينُ ما انطوت عليهِ سريرةُ ربَّةِ قلبه ومليكةِ روحه الحمقاء فانبرَى يستدرُّ عواطفَها الدَّفينةَ ويستسمِحُها لكي ترضى فتُنعمِ بالوصلِ وتهجُرَ الهجرَ حتّى ملّت فكلَّت.

خُلاصةُ الأمرِ أنّا بُلينا بمعشوقٍ أدمنَّاه وأدمنَنَا، فما زلنا في القربِ وبينَ جنباتِ حرمِ الجمالِ حتّى ظهرَ المفتُون فضربَ بعضَنا ببعضٍ، حتَّى إذا ساوَى بينَ الصّدفينِ أشعَلَ نارَ البينِ وأفرَغَ قِطرَ البغضاءِ على جروحٍ ما اندملت بعدُ من ألمِ الفراق .. فبعُدت الشُّقّة وغارت النُّفوسُ و استقرّت في سواءِ الجحيم الفاني، فانمحت الرُّسومُ وانعقدَ قلب المعشُوقةِ على الكُره، ولطالما كنت أعتقد -ولازلت- أنّ الكُره حبّ خفيّ.

ولم يعلمِ المسكينُ ما انطوت عليهِ سريرةُ ربَّةِ قلبه ومليكةِ روحه الحمقاء فانبرَى يستدرُّ عواطفَها الدَّفينةَ ويستسمِحُها لكي ترضى فتُنعمِ بالوصلِ وتهجُرَ الهجرَ حتّى ملّت فكلَّت فواعدتُه لقاءً (هنا) آخر الأسبوُع ، وها هو ينتظِرُ آخر الأسبوع منذُ سنينَ ولم يحن بعد!!

مرّ الجدّ في سبيله تاركا نفسي تنازعني نوبةَ جنوني الدوريّة حيث تمخّضت هذه المرّة -عبثا كالعادة- عن حوار مع أناي حول مفهوم الحبّ وعلاقته بالنساء: – ما المرأة؟ – شيءٌ مقدّسٌ، وحمًى منيع! – ما الذي يستهويك في النّساء؟ – يأسرني بريقُ عيني المرأة، ونعومةُ لفظها عند الطّلب، وإرادة الغضبِ الغزليّة! – من أنت بالنسبة لهنّ؟ – أنا الفيلسوفُ الجافّ، والفتى الكلاسيكي والشّيخُ الأعمى في آن. – كيف ذلك؟

– أمَا إنّهم يعلمونَ ظاهر حالي؛ شابٌّ مولعٌ بالكلامِ الصّعب، متفلسفٌ، جافّ المشاعر لا يحسنُ غير الرّثاء. ميَّالٌ للكآبة والحزن، ليس دبلوماسيًّا في مواقفه! – يعشق النّاسُ عادة، فهل هناك فرق بين المرأة والرّجل في ذلك؟ – أوّلًا، دعنا نعرف الحبّ نفسه، أليس كذلك؟ – نعم، نعم .. ما الحبّ كما تراه؟
– الحبّ كالكشفِ عن أهل الذوق؛ حجّة في مظنون الأمورِ وغريبها.

– ممكن تشرح أكثر؟ – طيّب، الحبّ -فيما توصّلت له أخيرًا -مثاليّةٌ براغماتيّة، أن تكون محبًّا/عاشقًا يعني أن تُقلع عن الكثيفَ فتنغمِسَ في حضرةِ الأنس. يعني أن تكون شبحًا، لا يمكن أن يُثبت غيرُك وجودَ هذا العالمِ الذي ولجته للتوّ، لكنّه موجود.. تعلم، حضرتك، أنّ الذات محكومةٌ بشروط لكي تمارس الفعل، وأنّ للفعل نفسه مراتب شتّى (النبيل والوضيع والعادي)

ولكن عندما نمعن النظر في دوافع "الفعل" نجدهُ مرتكزًا ويدورُ حولَ المردوديّة والمصلحة!  ولا فرقَ في هذا بين الرّجل والمرأة، ولكنّه يتجلّى أكثر عند النّساء .. أليسَ هذا غريبًا في عالمٍ يدّعي طُهرَ الحبّ وخلوّه من الدّنس؟ – نعم.. لكن ألا يُشكلُ على ذلك، لو اعتبرنَا المصلحةَ معايير ماديّة وموضوعيّة، حبُّ الوسيم للدميمة مثلا؟

– اعلم أنّ بين كلّ شخصينِ في هذا الكونِ مُناسبةٌ روحيّة، فما تآلف من أرواحهم اعترف وما تناكر منها اختلف. ثمّ لو اعتبرنَا حيثيّة الإشكالِ الحُسن والقبح مثلا، فهذا وجهُ إشكالٍ يندفعُ بمعرفةِ حقيقةِ العلاقاتِ؛ فالعلاقاتُ تُبنى في الأصلِ على السّلبِ والبذل.. بمعنى أنّك لو كنت وسيمًا وأحببتَ دميمةً حنونةً فأنت في آنٍ: فاقدٌ للحنانِ تريدُ سلبهُ وواجدٌ للجمالِ تريدُ بذلهُ، فكم من دميمةٍ زيّنها في عيونِ الناسِ وسامةُ خليلها. نستنتج أنّ العلاقاتِ، والحبّ خاصةً، مدارها على المصلحة؛ جليّة كانت أو خفيّة. فالحبُّ -كما تصوّره الأفلام والروايات- نسجُ الخيالِ البالي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.