شعار قسم مدونات

بشرٌ أنا يا أمي

blogs- الأم
"بَشَرٌ أنَا يَا أُمّي! بشَرٌ فقط يا أبِي! بَشَرٌ يا عالَم! " هي صرخةٌ بِدَاخِل كلِّ طفلٍ في هذَا العالَمِ، صَرْخَةٌ تَوَدُّ لوْ تُسْمِعَ كلَّ أُذُنٍ و كلّ قَلْبٍ و عَقلٍ محيطٍ به، مفَادُها أن أعتقُونِي منْ طُرِقكُم الغَرِيبَة الاستثنائية في التّعَاملِ معِي، و أعفُونِي من مقاييسكمْ التي تَخُطّونَهَا أملا أنْ تكُون هي سلّم التقييم الذي أسير وِفقه.


هيَ صَرخَةٌ صرخناها قَبلهُم، حِينَ عوقِبنَا و اعتقدنا أن ذنبنا هو أنّنا كنا سعداء بمُغامرَةٍ شقيّة مع أبناء الحيّ في إحدى الغابات، أو حينَ كوفئْنا و نحنُ في قمّة الملل من واجِبٍ مَنزليٍّ أرهَقنَا! و حِينَ لمْ يُسمحْ لنا باختيار اللعبة التي نُريد، وَ حينَ اضطررنا للنوْمِ عُنوةً وقتَ القيلولة و بداخلنَا طاقَةٌ و نشاطٌ يسمحُ لنا بالرّكضِ ألفَ ميلٍ دونَ توقّف.


علموهم أن النجاح ليس إجابات نموذجية كما تعلمهم المدارس، و ليس تحصيل معلومات و نسيانها، استثمروا في تعليمهم العلوم الإنسانية، و مهارات التواصل الاجتماعي مع أقرانهم و من يكبرهم و من يصغرهم و من يستفيدون منهم و من يفيدوهم، نَمُّوا عندهم مهارات التحليل والتفكير النقدي.

و حِينَ اعتقدنَا أنَّ مصيرنا جهنَّم لأنّنا اختلسْنَا قطعَةَ كعكٍ من تَحْتِ السرير، و حين كُسِرَت خواطرنا بنظرات عيون تجعلنا نذُوب خوفا لمجرّد أن بعض الأمور لفتت انتباهنا و أردناها و لا ذنب لهم سوى أننا كنا أطفالا لا نفهم معنى أن ترى شيئا يعجبك أو يثير فضولك و لا تحصل عليه، و صَعُبَ علينا فهم أن ميزانية آبائنا لا تكفي لشراء كل الأمور الجميلة، حِين اعتقدنا أننا سنكون محبوبين بمجرّد أن نلبّي ذلك الطلب الساذج أو الخدمة الغبية لذلك الرّاشد الاستغلالي لمجرّد أنّه قالَ "آتني بالماء حتى أحبّك أكثر!".


كلُّ هذه المواقف وغيرها كثير جدّاً، رغم بساطتها إلا أنّها جَعَلَت طفولتنا تبدو كفيلمٍ غامضٍ محشوٌّ بالرسائل السلبية التي ترسخت كمعتقدات ومبادئ كانت السّبب في تعطيل قُدُراتنا على التساؤل والفضولِ والتفكير ومحاولة الفهم والانفتاح والرّغبة والشغف والمغامرة والجرأة والتحدي، وجعلت فهمنا قاصرا لأهمِّ ما في هذه الحياة.


اسمعوا صرخاتهم الداخليّة و استجيبوا لها، 
علموهم أن الحياة تجربة و طريقهم فيها ما هو إلا كمٌّ لا متناهي من التساؤلات و بحثٌ مستمرٌّ عن الحقيقة التي لا محطة نهائية لها ! علموهم أن يستمرّوا في البحث مادامت قلوبهم تنبض، وخلال مسارهم لا تجعلوهم يعتقدون أن الملائكيَّةَ درجة لابد من بلوغها، بل عاملوهم كبشرٍ يضجّ بالتناقضات، وعلموهم أن الأخطاء ليست عيبا ما داموا يسعون لإصلاحها، والفشل ليس معناه نهاية الحياة. وإننا بالنقد واللوم لن نستطيع أن نخرج أجمل ما في الذات، بل نفعل ذلك من خلال الرحمة معها والحب لها.


انظروا إليهم بأكبر قدر من الحب، وبأقل قدر من الأوامر والتوجيهات، فبكل توجيه خاطئ أو أناني نحن نعكس الصورة التي نريد منهم أن يظهروا بها، حتى لو أنها مغايرة لما يريدونه، ومعاكسة لهويتهم الخاصة.


علموهم أن النجاح ليس إجابات نموذجية كما تعلمهم المدارس، و ليس تحصيل معلومات و نسيانها، استثمروا في تعليمهم العلوم الإنسانية، و مهارات التواصل الاجتماعي مع أقرانهم و من يكبرهم و من يصغرهم و من يستفيدون منهم و من يفيدوهم، نَمُّوا عندهم مهارات التحليل والتفكير النقدي، و اتركوا لهم فرصة تكوين شخصياتهم المستقلة بدون وصاية فكرية، و ساعدوهم أن يجعلوا عقولهم تزهر بالحياة، فالمعرفة وحدها لا تصنع عقلا ناضجا و لا تصنع إنسانا.


و أخيرا و هو الأهم.. إياكم أن تجعلوهم من ملكياتكم الخاصة! ليس خوفا عليهم بل خوفاً عليكمْ، إذْ ستعانونَ معاناةً حالكة حينَ يستقلّون عنكمْ في كِبرهم!.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.