شعار قسم مدونات

ماذا لو اختفت؟

مدونات، الأم
أصحيحُُ أنّ أحلامنا ما هي إلاّ مرآءة لأفكارِنا، ماذا لو كانت أيضاً مرآءةً لمخاوِفِنا؟ استيقظتُ قبل الخامسةِ صباحاً على اثرِ حُلمٍ مزعج بل هو أكثر أحلامي إزعاجاً ولنقل هو (كالكابوس) بل أشد وطئه، "أمي قد ضاعت". إستيقظتُ وبدأتُ بالبكاء وكأنها ضاعت فعلاً، وبدأتُ أسأل نفسي وهل يمكن لها أن تضيع؟

هل تختفي في يومٍ من الأيام؟، وهل يمكِنُنِي أن أحتمِلَ يوماً بلا أم، يا لَسخريةِ القدر هل يمكن أن يضعني يوماً ما في مفترق طرق أعجز فيه عن الإختيار، عندها تدافعتِ الأفكار في رأسي كُلُها تقول لا يمكِنُكي الإستِمرارُ دونها، لا يمكِنُني العيش في حياةٍ بلا أم، لا يمكِنُني تحُملُ صباحٍ بلا أم "فصباحُُ بلا أمُ هو ليسَ بصباح، فكيف للشمس أن تشرق بدونِها، فإن كان القمر يستمِدُ ضوءه من الشمس فالشمس تستمِدُ ضوءها منها".

تذكّرتُ ابنة خالتي التي اطُّرت للسفر بسبب دراسة الجامعه صحيحُُ أنها مازالت في الوطن ولكن ليس بقُربِ والِدتِها، تسآءلتُ كيف لها أن تحتَمِلَ كل هذا البُعد؟ وهي التي ماظننتُها قط تبتَعِد لِكثرةِ إلتِصاقِها بِأُمِها، إنتهى بي التفكِيرُ أنها بالتأكيد قوية بما يكفي لإحتِمالِ هكذا بُعد، قويةُُ لأنّ لا أحدَ يذهب ويترُكُ قلبه ورآءه دون أن يلتَفِتَ عدة مراتٍ ليتأكد ما إن كان وآثِقاً من أنّه يُريدُ الذهاب.

"حيثُ أُمي وطن ودون ذلك منفى". هكذا هو كل مكانٍ لا توجَدينَ فيه يا أمي، فحيثُ توجَدين يوجَدُ المكان وحيثُ تعِيشين يمُرُ الزمان، وغيرُها أماكِنُ مهجورةُُ وساعاتُُ معطلةُُ عنِ العَمل. راودتني تلك الأفكار التي لطالما كانت تُراوِدُني وأنا صغيره عندما تمرضُ أمي، وأتت تلك الفكرة الحمقاء إلى عقلي بسؤآلِها الذي لطالما تحاشيتُ أن أسأله "ماذا لو رحلت أُمي؟"، هذا السؤال وحده يتطلب مني استغفاراً كثيراً وطلب العفو والمغفِرةِ من الله، فكلما خطر ببالي أراهُ كإثم يستوجِبُ العقاب الأليم، كُنتُ حينها كلما صليتُ أدعوا الله أن يجعَلَ يومي قبلَ يومِها فأنا لن أقوى على تحمُلِ هكذا ألم، الله وحدهُ يعلمُ كم ألححتُ عليه بهذا الدعاء في صغري وأظنُني بعدَ هذا اليوم لن أنفك عنه مادام الموت حق وهو الحقيقة التي نهرُب منها دائماً ولا نُطِيقُ تصدِيقها.

الحياةُ تفقِد بريقها بدونك، يحزِمُ الجمال أمتِعتهُ ويرحل بِرحيلِك، إسألي الأزهار هل لها بِعطرٍ بِدُونك، إسألِي الحُب هل له معنى سوى إسمك، إسألي الوجود هل له وجودُُ إن لم تكُوني

"الأم هي ذلك المصباح الذي يضئ لنا عتمة الطريق، هي تلك الشمعةُ في الليلةِ الظلماء، فماذا سيحدُث لو انطفأ المصباح وهبت الريح على ضوء شمعتِنا؟" عندما أرى في الأخبار طفلُُ قد فقد أمه أجدُني أبكي معه، وكأنني أنا التي فقدتُ أُمي لا هو "كم هو مؤلمُُ الفقد عندما يتعلّق بمن نُحِب"، تأخذُ الحرب مئات الأُمهات وتُخلِّف ورآءها بؤساً وتعاسةً ودموع أطفالٍ صغار وكِبار فنحنُ مهما كبِرنا لا نكبرُ على كلمةِ "أُمي" نظلُ صِغاراً مادُمنا نُردد هذه الكلمه ونهرمُ عندما نتوقف عن قولِها.

"هذا العالم بدونك يصبح أضيق من خرم الإبره، سوف أختنق فيه بدونك فكيف للهواء أن يأتي من مكانٍ آخر سوى رئتيك."كان أحدُ السلف يبكي على قبرِ أمه يوم دفنِها، فقيل له: لماذا تبكي؟ قال: "كيف لا أبكي واليوم أغلق باب من أبواب الجنه"، هي جنةُ الدنيا التي يغضُ الكثيرون الطرف عنها عندما يكبرون، تتخطّفُهم الحياة بمشاغِلِها فتجِدُ هذا يتغرّب بعيداً عنها وذا بمشاغِله وهمومه التي لا حصر لها قلّما يتذكّرُها، ثم نسأل لما السعادةُ لا تدقُ بابنا، كفى بأنفُسِنا شقاءً فقد رحلنا من الجنة بإرادتِنا.

"من بابِها جرى نهرُ الحياة وسال ليسقي أبوابنا، تخيل لو جفّ يومُُ المنبع فمن أين تستقي أبوابُنا" ولكِنها لم تختفِ بعد! مازال يمكِنني رؤيتها هذا الصباح وكل صباح، مازال يمكِنُني أن أقول أُمي، مازال يمكِنُني أن أجلِس بجوارها وأضع رأسي على حجرها وهي تلاعِب شعري بيديها وتسألُني مابي، مازَالت هُنا كي تنعمَ عَينَيّ بالجمال وينعم قلبي بالدفء والحنان والأمان، مازال يُمكِنني أن أتعب وأنا على علمٍ أنّ الدواء بِقربي "فهي شفاءُُ لكل سقم"، مازالتِ الزهور تُزهر فهي هنا إذاً، مازالتِ العصافير تُزقزق هي إذاً هنا، مازالت الإبتساماتُ تتوزعُ بين وجوه الأطفال هي إذاً هنا.

"الحياةُ تفقِد بريقها بدونك، يحزِمُ الجمال أمتِعتهُ ويرحل بِرحيلِك، إسألي الأزهار هل لها بِعطرٍ بِدُونك، إسألِي الحُب هل له معنى سوى إسمك، إسألي الوجود هل له وجودُُ إن لم تكُوني".
"فلنكُن رحيمين بقلوب أمهاتِنا، قلوبُُ لم تعرف سوى الحب سبيلاً، قلوب تحبنا بلا سبب، قلوب لا تنتظر مقابل من حبها سوى رسم ابتسامةٍ على وجوهِنا".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.