شعار قسم مدونات

خذوا مظاهركم وارحلوا

blogs - ناس في الشارع
ها أنا أتنفس بصعوبة وأكاد أختنق، أكتب سطرا فأتلوه بالممحاة أمسحه من حيث البداية، لأن التصنع إن زاد في الحياة قتل رونقها وأزاح البهجة منها، وأضحى بنا منكمشين عن علاقتنا ومن اعتدنا أن نخالطهم، لم أسطر رؤوس الأقلام للأفكار حتى أبني عليها جسد هذا المقال البائس، ولا أدري إن كنت أود أن أنهيه في نقطة معينة أم أنه سيتطلب مني الاسترسال في الحديث.

ما الذي يضيرني الآن أو يعكر صفو مزاجي؟ لعل أصواتهم تعود الآن؟ لعلهم بتصرفاتهم المستفزة يتملكون ذاكرتنا القريبة؟ فتعود لهجاتهم المنمقة وأحاديثهم المتباهية إلينا، لست أدري ما السبب لكني أصبحت الآن مقتنعة تماما بأننا محاطون بكمية لا يستهان بها من الأشخاص الذين تملكتهم المظاهر فبتنا غير قادرين على التمييز بينهم..

أنت الآن مثلي، تخشى تماما الانخداع، تخاف أن تثق أو أن تخوض علاقات اجتماعية جديدة، فكم من علاقة انتهت بعد مدة وجيزة وبردت كأنها لم تكن، وكم من شخص دخل إلى حياتنا فسررنا بوجوده فما لبث أن يمر عنا دون طرح السلام حتى.

تعيش في مجتمع مفتوح، تخالط الأشخاص من أماكن عدة، المخيم والقروي والمدني والقاطن في الخارج وحضر إلى هنا للدراسة، الكبير في العمر ومن مثل عمرك ومن هم أصغر، الفقير والغني ومن حالتهم متوسطة ومن تكاد تكون معدومة، فترنو إلى نفسك وتحتفظ بخصوصيتك حفاظا على مشاعر داخل الأشخاص أنت تجهلها، وحرصا منك على عدم إظهار لغة "الأنا" وإيقانا منك أن الصمت عن حياتك الشخصية هو أمر يخصك فقط، فان كنت فقير أو غني شيء يخصك، وان كنت تشتري الماركات أو من التنزيلات فهذا شانك وحدك.

أدركوا دوما أن الكذب لا يحتاج لمن يكشفه، فالحياة وحدها وتعاقب المواقف قادرة على أن تكشف كل ما تودون إخفاءه، عودوا إلى طبيعتكم لعلكم تحافظون على ما تبقى من رمق احترام لكم في عيون الغير.

لكنك بتصرفاتك هذه لن تعف من الأشخاص الذين يسعون على سد فجوة النقص لديهم بكل ما أوتوا من قوة، تركوا سد نقصهم وانشغلوا كيف ينحتون صورة لهم كما يبنوها بالخيال، يحزنوك على حالهم المترهل وعلى قلة الثقة بأنفسهم حتى باتوا يشاركونك أدق التفاصيل التي لا تعنيك، ولو لبعد مائة عام هي لن تعنيك، ولن ترفعهم بنظرك بل ستقلل شأنهم وتجعلك هاجرا لكل مجلس هم فيه.

تراهم بوضع اجتماعي عادي، لكن ما إن تستمع لهم لتظن أن مال قارون بجعبتهم، تراهم يحصدون علامة عالية في اختبار بمحض الصدفة فيهيأ إليك أنهم من الأوائل على الدفعة، تراهم يسافرون مرة فيحدثوك أنهم يسافرون سنويا وأماكن لم تسمع بها، تراهم يدخلون علاقات عاطفية فاشلة تكن أنت عالم بخلخلاتها وبمواطن ضعفها الكثيرة، وما إن جلسوا وإياك ينهال سد منيع من الأكاذيب وإفشاء الخصوصيات التي لا تحكى حتى، وهم يشعرون بأنهم أصبحوا بنظرك أناسا متحضرين يحسدون على نعمهم، وهم لا يشعرون بحاجتك للتقيؤ.

وإياك ثم إياك أن تسألهم عن مساعدة ما، فيشعرونك أنهم مصباح علاء الدين، وإن سيروا مبتغاك فاستعد لرد الجميل، ومن المضحك المبكي بالأمر أن نسيان هؤلاء الأشخاص سريع، فما يرفضونه أمس يخبروك أنهم اعتادوه غدا، وإن أشرت عليهم بالنصح بأمر ما اكتشفت غدا أنهم يحملون رأيك للغير ويتباهون بحنكتهم وقدرتهم على تدارك الأمور، وإن أعجبك شخص منهم بتصرف وأبديته له من باب التشجيع أندمك على هذا التصرف ولولا أنك تتمالك أعصابك لاعتذرت منهم على المديح، وفي نهاية المطاف تكتشف أن من يقف وراء عمله أو رأيه شخص آخر ضحية مثلك مثله.

تحتاج دوما أن تخبرهم بثقل جلساتهم والاختناق الذي يصاحبك بحديثهم وتراسل كذباتهم، تود لو تقول خذوا مظاهركم وارحلوا، وأدركوا دوما أن الكذب لا يحتاج لمن يكشفه، فالحياة وحدها وتعاقب المواقف قادرة على أن تكشف كل ما تودون إخفاءه، عودوا إلى طبيعتكم لعلكم تحافظون على ما تبقى من رمق احترام لكم في عيون الغير، وعوا أن نظرات غيركم لكم في الحديث ليست إعجابا بل استغرابا، وصدقوني ما يبدو أمامكم عكس ما يظهر خلفكم، فإما أن تعودوا لطبيعتكم وإما أن ترحلوا حتى لا تعكروا لنا صفو الحياة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.