شعار قسم مدونات

اللحظة الفارقة

walkers
منذ عامين وفى مثل هذه الأيام – هو ذلك اليوم تحديداً – كانت الشمس قد بدأت تميل نحو المغيب لتعلن عن انتهائه كيوم مرهق لجميع رفقاء الدراسة من حولي، لكنه كان بالنسبة لي يوم حزين كئيب ممل، لأنى كنت أتحاشى فيه التعامل مع رفيقه دربي – إن صح وصفى لها – فكلما تذكرت هذا اليوم أجد أحداثه تداعى أمام عيني وتسترسل الصور بشكل تلقائي وكأنى أعيش كافة تفاصيله من جديد، فأشعر وكأن هناك نسمة رقيقة رطبة جاءت من بعيد فلمست قلبي لتحيي بعض الذكريات الدافئة التي تهون عليه ثقل الأيام.
 
عندما انتبهت لبكائي أخرجت مسرعة منديلاً لترفع كفها الصغير قرب وجهى وتمسح دموعي بكل حنان، وكأنها تمسح كل دقائق العتاب الحزينة من عمرنا، وتقول أنا هنا بجانبك وسنكمل الطريق معاً.

بدأت الحكاية منذ العام الأول في الجامعة – تعرفنا في موقف مضحك ومرح كشخصيتينا – ومن يومها اقترن اسم كُل منا بالأخرى، وبالرغم من أننا تشاجرنا كثيراً ربما بعدد الأيام التي جمعتنا معاً، إلا أن تشاجرنا ذلك اليوم هو من صنع اللحظة الفارقة في علاقتنا كأصدقاء. لملمت أشيائي على عجل بعد انتهاء أخر محاضرة تجنباً للحديث معها ظناً منى بأن غضبى سيتدفق في وجهها كالفيضان يقضى على كل شيء، وهذا ما حدث حين افتقدت وجودي وجاءت خلفي وأوقفتني في الساحة العامة للجامعة لنصبح على مَرْأى وَمَسْمَع من الجميع.

أعترف بأن عتابي لها ذلك اليوم كان قاسياً بعض الشيء، وربما كان ظالماً أيضاً – بفعل وساوس البعض – ولكن لساني انعقد في منتصف الحديث حين هربت دموعها إلى خديّها فجأة، وسرعان ما نفضت عن عقلي وساوسه وبكيت أنا الأخرى عندما أوضحت وجهة نظرها بنبرة مبحوحة وصوت مخذول حزين، وعندما انتبهت لبكائي أخرجت مسرعة منديلاً لترفع كفها الصغير قرب وجهى وتمسح دموعي بكل حنان، وكأنها تمسح كل دقائق العتاب الحزينة من عمرنا وتقول أنا هنا بجانبك وسنكمل الطريق معاً كما تعاهدنا من قبل مهما حدث. 

هناك من سيقول أن الصداقات تتلاشى مع مرور الزمن، نعم، فهذا يحدث، ولكن بين من يدعون أنهم أصدقاء ونسمعهم يتحدثون من وراء ظهور بعضهم البعض بالسوء، وبين آخرين مع أول فرصة عمل نجدهم يصعدون فوق أكتاف بعضهم البعض ويسحقون بأقدامهم كل معانى المودة والأخوة والصدق، وبين هؤلاء الذين تمتد أيديهم خلف ظهرك فتساعدك على الوقوع وأنت على حافة الهاوية؛ فقوة الصداقة ببساطة تكمن فى رباط الصدق الذى يربط بين الأصدقاء؛ فقوته تفوق قوة الخلافات والمصالح على مر الزمان فتستمر الصداقة للآبد، لأنها ليست بكثرة الحديث واللقاء وإنما بشيء يفوق كل هذا مع كل موقف وعثرة تمر بها.

فالصديق في قول الرافعي "هو الذي إذا حضر رأيت كيف تظهر لك نفسك لتتأمّل فيها، وإذا غاب أحسستَ أنَّ جزءاً منك ليس فيك، فسائرك يحنُّ إليك، فإذا أصبحَ من ماضيك بعد أنْ كان من حاضرك، وإذا تحوّل عنك ليصلك بغير المحدود كما وصلك بالمحدود، وإذا مات يومئذٍ لا تقول: إنّه مات لك ميّت، بل مات فيك ميت.. ذلك هو الصديق".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.