شعار قسم مدونات

التزوير الذي رأته عيني

مدونات - انتخابات الجزائر

كنت مسافرة يومها من وهران عاصمة الغرب الجزائري إلى محل إقامتي استغرق الأمر حوالي أربع ساعات في الطريق، كانت شوارع المدن التي مررنا بها تكاد تخلو من الناس، لم يكن يوم إجازة أو يوم عيد ولا حتى يوما عاديا من أيام السنة، كان يوم انتخابات تعيشه الجزائر.

آلمني رأسي من النقاش الذي دار داخل سيارة نقل المسافرين بين السائق وبعض الركاب حول الانتخابات والتزوير وحتى ما آلت إليه البلاد، كل الكلام كان سلبيا لدرجة الصداع، فلا انأ استطيع أن أغفو قليلا ولا أنا استطيع أن أكون جزئا من هذا النقاش.

في الجزائر العميقة التي يحكمها العرف المبطن بالتخلف أن تتدخل المرأة في نقاش عام مع رجال لا تعرفهم هو أمر ثقيل وغير مألوف، خاصة إذا كان الرجال من ذوي اللحي البيضاء فهم سيرمقونها بنظرة ازدراء وستعتبر قليلة تربية، أما إن كان النقاش يتضمن رجالا من سنها أو أكبر منها بقليل فستصبح مرمى للألسنة قبل المطامع. المرأة في بعض المناطق هنا مثلها مثل الطفل أو المجنون لا يأخذ من حديثهم ولا يحتكم إليهم، حتى لو بلغت مراتب العلماء والحكماء ستظل ناقصة. لكنها إذا أخطأت فهي أكثر من تحاسب وتعنف وستلبس ثوب المهانة حتى الممات.

حكام الجزائر-ما بعد الاستقلال- اهتموا بفرض سيطرتهم وبترويض هذا الشعب الثائر عبر عدة مراحل، والبداية كانت مع اشتراكية قضت على روح المبادرة وصولا إلى الإرهاب كوسيلة ثم مرحلة تعميم الفساد..

قطع حبل أفكاري صوت المذيع وهو يتلو تقريره عن إحصائيات الفترة الصباحية للانتخابات: "تشهد مراكز الاقتراع عبر الوطن توافداً جيداً للناخبين من شباب وشيوخ، نساء ورجال الكل يتسابق لتأدية واجبه الوطني.." هنا صرخ السائق العصبي: "أي توافد هذا والشوارع تخلو من الناس، اللعبة محسومة والنتائج منذ البداية واضحة فلماذا المشاركة؟". تعالت الأصوات من مؤيد ومعقب وأنا الفتاة الوحيدة في هذه السيارة انزويت في الركن وفتحت الهاتف أبحث في الكتب الإلكترونية عن متنفس لعقلي..

وقعت عيني على كتاب شروط النهضة للمفكر مالك ابن نبي، فتحته وابتسامة تعلو وجهي ـتخيلت مالك ابن نبي جالسا في مكاني بين هؤلاء الناقمين القانطين، ماذا كانت ستكون ردت فعله؟ هو يرى أن مشكلة النهضة تكمن في ثلاث عناصر أولية: (مشكلة الإنسان، ومشكلة التراب، ومشكلة الوقت). لو كان هنا لرأى المشكلة تنحصر في الإنسان وحده. يقول مالك ابن نبي أن المشروع الإصلاحي يبدأ بتغيير الإنسان، ثم بتعليمه الانخراط في الجماعة ثم بالتنظيم فالنقد البناء إلى أن تبدأ عملية التطور تمهيداً لظهور الحضارة، بالنظر للواقع المعاش فالذي حدث هو العكس تماما.

المتأمل في حال الشعب الجزائري منذ الاستقلال إلى يومنا هذا سيعرف أن النظام السياسي استطاع أن يغيره جذريا وبشكل سلبي، فبعد خروج المستعمر الفرنسي كان الشعب الجزائري على درجة عالية من قيم التضحية والتضامن والإيجابية. وكان من المفروض على من تولوا الحكم أن يحافظوا على هذا المكسب الغالي وأن يجعلوا منه ركيزة لصناعة وطن مزدهر يفخر بانتمائه وهويته والشاهد على هذا ما حدث في اليابان والصين واندونيسيا وغيرها من البلدان التي أصبحت اليوم في الريادة. غير أن حكام ما بعد الاستقلال اهتموا بفرض سيطرتهم وبترويض هذا الشعب الثائر عبر عدة مراحل، والبداية كانت مع اشتراكية قضت على روح المبادرة وصولا إلى الإرهاب كوسيلة ثم مرحلة تعميم الفساد..

كانت الأفكار تتضارب في رأسي حين قاطعها صوت السائق وهو يحمد الله على وصولنا سالمين، ترجلت من سيارة النقل الجماعي متوجهة للمنزل وبعد قليل من الراحة قررت أن أتوجه لتأدية الواجب الوطني كما قال المذيع، حين وصلت إلى المركز الانتخاب كان قد بقي 26 دقيقة على إغلاق الصناديق وبداية عملية الفرز، توجهت إلى القاعة حيث أدلي بصوتي، كان الباب مغلقا فدفعته لأدخل استقبلتني امرأة أعرفها تبادلنا التحية وأطراف الحديث، كل شيء كان عاديا إلى أن أردت البصم في السجل وجدت أنه قد تم البصم عند اسمي! نظرت إليها فبادرت بالقول أن عجوزا أخطأت مكان بصمتها، نظرت مرة ثانية إلى سجل الناخبين فإذا به قد ملأ أغلبه! قد يكون مجرد خطأ كما قالت، وقد يكون التزوير الذي رأته عيني.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.