شعار قسم مدونات

التغريبة الإعلامية: المنبتّ من الأستانة إلى الربيع الخاطف

blogs - camera

في أحد المؤتمرات التي تضجّ بها تركیا بین الفینة والأخرى، بین اللحظة وقریبتها، التقیت صدیقة لم أرها منذ أیام الجامعة. كانت تعمل في مؤسّسة إعلامية عربية في البلد، إسطنبول.

 

وبصوت آسف بلّغتني بحال هذه القناة التلفزیونیة المتدهور "لم أبق سوى أنا ومذیع الأخبار والمخرج في قسم الأخبار". أزمة مالیة أوصلتها لطرد بعض الصحفیین وإلى انسحاب البعض الآخر.

 

تأسّفت لأنّ الحال حسب تعبیرھا ممكن أن یخلص إلى إغلاق القناة. وهو ما سیؤدّي بها إلى البحث سعیا إلى البدیل. وهو الحال مع عدد من هذه المؤسّسات الإعلامیة، تلفزیون، إذاعة أو صحف ورقية، وهم قلّة بالأساس، وإلكترونية.

 

هذه القناة وغیرها من وسائل الإعلام هي ولیدة مشهد ثوريّ عاشته البلدان العربیة أدّى إلى هجرتها إلى جانب هجرة عدد لا بأس به من السكّان، والهجرة كانت حسب عمق الثورة واستشراء النظام الاستبدادي في البلد. هاجروا بإرادتهم أو مجبرین وبقي البعض یرزح تحت وطأة الأنظمة العنكبوتیة المتجذّرة بطریقة أو بأخرى.

 

لكن الإعلام رحل مع رحیل الرعیل الأوّل من "الطغاة". الإعلام الذي كان یمجّد بطولات زائفة وانجازات وهمیّة لما قبل 14جانفي- يناير. ونشأ إعلام جدید لبس ثوب الثوریة في بدایته. وساهم في إظهار نوع جدید من إعلام الجماهير أو إعلام الشعب وخاصّة الثوّار استرضاء لما مرّوا به أیام الحكم الأحادي الاستبدادي وسلطة الأمن.

 

ثمّ لعب الإعلام دوره أیام الثورة وخاصّة مع إجراء أولى الانتخابات الدیمقراطیة التي قطعت مع الـ99,9 و"الأربعین حرامي". وبدأت موجة ممنهجة ضدّ ما یعرف "باعتلاء الاسلامیین الحكم" في كلّ من تونس ومصر. وبكلّ الوسائل الحیادیة والمشبوهة، وصولا إلى الدعایة بكافة أسالیبها.

 

ھل تنجح القنوات والإذاعات والمواقع في استعادة شرعیة الانتقال الدیمقراطي التي شهدتها بعض دول الربیع العربي أو إحیاء محاولات البعض الآخر للوصول إلى انتخابات شعبیة ودیمقراطیة بمعنى اختیار الشعب لمن یحكمه؟

تبیّن فترتها شراسة إعلامیّة لمن كان یعمل سابقا بغطاء النظام ثمّ ارتدى ثوب الثائر وبعدھا ثوب المعارض فقط لأجل هدف وحید. فكان یعمل وفق خطّة لإثارة المواضیع الحساسة المعیشیة والدینیة وغیرھا. وكانت الصورة والتقریر والفیلم والوثائقي والبرامج والمنتديات الحواريّة، كلّ الأدوات والوسائل الإعلاميّة حاضرة فقط لإثبات رؤیة معیّنة. فیما فشل من یسعى لنمط جدید من الحكم في إثبات ولو لبنة واحدة من العمل الإعلامي المنظّم.


بین المنشأ والمهجر

مصریة كانت، لیبیة، سوریّة، عراقیة، یمنیّة.. باقة من القنوات من مختلف البلاد العربیة اقتلعت من جذورھا لتزرع من جدید في بیئة غیر بیئتها سوى بعض روّادها أو متابعيها انتقلوا معها. لیس مساندة لها وإنّما رمتهم قسوة الربیع العربي العاصف الذي أطاح بأنظمة فساد لتتوالد أنظمة جدیدة ووسائل إعلام تحارب معها. مثلما حاربت سابقتها وكانت سوطا ناعما في ید من بیده الأمر.

 

فأيّ مصیر لهذه القنوات التي نشأت لتحارب یدا "مجرمة"، حرّمت العیش على المدنیین العزّل قبل الصحفیین المدجّجین بالسلاح. وسلاحهم في حقیقة الأمر كلمة وكامیرا وجهاز خلويّ.

 

فكّرت في هذه الباقة من وسائل الإعلام، مكانتها دورها وھل یمكن أن تعید هذه القنوات أمجاد أیّام التحریر الأولى التي عاشها أسلافنا أیّام الاستعمار في كلّ الربوع العربیة. وھل یكتب لهذه القنوات أن تصمد أم هي محاولة لإنعاش المعارضین ومعارضتهم.

 

أم تكون هي فرصة لاستعادة الشرعیة المفتكّة من قبل نظام أمني أوعسكري "مشبوه" .

وھل سیكون هذا الإعلام في حالة ردّ وصدّ لما یأتي به الإعلام المناكف له دون أن تكون له أيّة أهداف تحریریة أو تطویریة، البلاد العربیة بحاجتها مثل الحاجة للإعلام كواجهة صلبة أمام المدّ الدّاخلي والخارجي من الثورات المضادّة.

 

المنبتّ

فالإعلام العربي الذي انتقل قسرا أو بإرادته إلى تركیا أراد الخروج من الدائرة الضیقة التي فرضت عليه فرضا إثر ثورات الربیع المزهر. وابتعد عن جذوره أين نشأ لینبت من جدید في بلد جديد. فهل ینتهي به الأمر للإنبتات وإضاعة الهدف والغایة التي من أجلها وجد أو التسلیم فيها بعد شدّة أو ضغط، فيكون كالمُنْبَتّ المَقْطُوع من أصله. وقد عرّف المنبتّ أنّه من لاَ أَرْضاً قَطَعَ وَلاَ ظهراً أَبْقَى فهو من إفراطه فِي طَلَبِ الشَّيْء وَالْمُبَالغة فيه رُبَّما یُفَوِّته عَلَى نَفْسه.

 

فهل تكون الغایة التي وضعها لنفسه غایة لا تدرك. أو غایة مثالیّة أكثر من اللّزوم، أم بطریقة أو بأخرى یضیّعها ونعود إلى نقطة البدایة؟

 

ألم یكن أجدى بهذا الإعلام أن یسعى لتوحید الصف الإعلامي ثمّ اعتماد آلیات محكمة من الحبكة الإعلامیة والتنویع البرمجي والإتقان المهني والحرفیة عوض التنافس وتكرار المضمون الذي ربّما ملّه صانعو الإعلام أنفسهم قبل الجمهور.

 

هذا الإعلام الذي أغفل سلاحا كبیرا في یده وهو جمهوره فلم یسأل عن احتیاجاته ولم یشرّكه في العملیة الإعلامیة حتى. وهو نفسه ممكن أن يشكّل رأيا عامّا مساندا لفكرته ورؤيته في الداخل والخارج. أيضا لا تقدر مؤسسة أن تنتج مادّة اعلامیة لقاعدة شعبیة لا تعرفها، مشتت نصفها والنصف منشق عن بعضه في مناوشات اعلامیة وسیاسیة واقتصادیة.

 

هجرة الأوّلین

سیكون المشهد برمّته تغریبة إعلامیّة وربیعا خاطفا تنفست أثناءه هذه الدول بضعة من الزمن لتعود ید الإعلام في خدمة الثورة المضادّة والتي نجدها أقوى وطأة من الاستعمار والاستبداد

وبالعودة لأیّام الأستانة، عاصمة الخلافة العثمانیة، اسطنبول الیوم، نجد عدد 47 جریدة ومجلّة أنشئت في هذه المدینة فقط، بالمثل كانت الصحف والمجلات تصدر في أوروبّا أو أمریكا وغیرها كتعویض عن النقص الذي تعانيه الدول العربیة في المجال الإعلامي، وقد مُنع أصحابها من إنشاء أي وسیلة إعلامیّة طالما هي معارضة أو كانت لخدمة أهداف تحریریة أو إنسانیة وخاصّة عربیة إسلامیّة تخدم الأمّة والهوية.

 

وكأنّ الإعلام العربي كتب له أن یعیش إمّا مقموعا ومطاردا في بلده، أومهاجرا یبحث عن حریة مفتكّة أو شرعیّة غائبة.

 

لكن أكثر ما كان یعزّي نشأة الصحافة العربیة خارج بلدانها في بدایتها إلى عاملین أساسیین أوّلهما أنّ هذه البلدان خاضعة للإستعمار الأجنبي خلال القرن 19. وخدمة لمصلحة هذه البلدان للحصول على بعض المكاسب المشروعة، أو لتكون صدى للجالیة المقیمة في تلك البلد.

 

فالإعلام العربي المهجّر متجذّر في التاریخ متأصّل في العمل المقاوم وتنقّله أو نشأته خارج دیاره فرضته ظروف سیاسیة واقتصادیّة وأمنیة بحته في الماضي والحاضر.

 

"مرآة الأحوال"[1] من الصحف العربية التي كانت سلاحا من أسلحة الإعلام المهجّر أیّام الاستعمار في اسطنبول قديما، لیفتكّ حقّا أو یعید مغصوبا.

أمّا إذاعة صوت العرب[2] التي كانت مصدحا لمقاومي الاستعمار فترتها لدرجة وصفت أنّها "بوّابة" تحریر الشعوب العربیة. فهل نجد اليوم مرآة للأحوال وصوتا قویّا للعرب في هذه القنوات الإعلامیة.

 

لكنّ الفارقة أن وسائل الإعلام تلك انتهى بها الأمر إلى العودة إلى الحضن والبلد الأمّ والمساهمة ولو بقدر لرفع غیمة الاستعمار عن بلداننا العربیة. السؤال الیوم ھل تنجح هذه القنوات والإذاعات والمواقع في استعادة شرعیة الانتقال الدیمقراطي التي شهدتها بعض دول الربیع العربي أو إحیاء محاولات البعض الآخر للوصول إلى انتخابات شعبیة ودیمقراطیة بمعنى اختیار الشعب لمن یحكمه؟

 

أم سیكون المشهد برمّته تغریبة إعلامیّة وربیعا خاطفا تنفست أثناءه هذه الدول بضعة من الزمن لتعود ید الإعلام في خدمة الثورة المضادّة والتي نجدها أقوى وطأة من الاستعمار والاستبداد خاصّة وأنّها تحاك بأیدي معلومة كانت أو خفیّة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.