شعار قسم مدونات

أوليس في بعض الجنون صواب؟

blogs إبداع

هناك حاجة ماسة لوجود عدد لا بأس به من العقلاء على هذا الكوكب الدائم الاضطراب. وأعني بهم أولئك البشر الذين يعيشون حياة مستقرة نسبياً، بعيدة عن الاضطرابات النفسية والعاطفية والعقلية، والذين يركنون دائماً إلى الحياة العادية في شكلها البسيط من حيث الهموم والتساؤلات، منهمكين في أعبائها اليومية المعتادة، مبتعدين كل البعد عن مطاردة الأسئلة الكونية الكبرى.

فتكمن أهمية هذه الفئة من البشر، والتي غالباً ما تنحو صوب ملامح الحياة المثالية، في إبقاء الحياة محافظة على شيء من وقارها واتزانها، لضمان استمرارها لقرون جديدة. كما أن الحاجة إليهم تتجلى غالباً عند اندلاع الأحداث الطارئة ووقوع المجتمعات التي ينتمون إليها في المآزق المباغتة، فرغم استفزاز هذه الأحداث المتتابعة للشعور والمنطق في شخصياتهم؛ إلا أنهم دائماً ما يحاولون إثبات قدرتهم على إخراج البشرية من مآزقها واستعادة السيطرة على زمام الأمور، أو أنهم قد يكتفون في بعض الأحيان بالاجتهاد في إجاد الحلول الملائمة للأزمات.
 

في الوقت ذاته، هناك صوت قائل بأن العمل الإبداعي الخلاق والفريد والخالد ليس من شأن هذه الفئة من البشر إطلاقاً، حيث أن الجانب الخلاق في الإنسان لن يكون متوثباً إذا ما كان هذا الإنسان يعيش حالة من الارتخاء و((الاستجمام)) الشعوري، بعيدا عن القلق المزمن والاضطراب الذي من شأنه أن يحرك الساكن في النفس البشرية ويدفعها للتعبير عن الحياة كمأزق وجودي في صور شتى من الإبداع والفنون تبعث على الدهشة، لكنها تثير في نفس الوقت أسئلة كثيرة للكشف عن سر العلاقة الجدلية القائمة بين الفن والإبداع من جهة والتصرفات اللاواعية والتي قد تدخل في إطار الجنون من جهة أخرى .
 

قد لا نستطيع أن نتهم كل مبدع يدخل حاملا معه الدهشة إلى هذا العالم بالجنون لكن الوقوف على أهم التجارب الإبداعية في تاريخ الإنسانية؛ سوف يقود لفكرة أن العبقرية ضرب من ضروب الجنون وشكل من أشكال المرض النفسي

إذا ظل الإنسان يعيش حالة ((الخنوع)) الأبدي هذه، فإنه من المؤكد يعيش حالة من جمود الطموح، وركود الأسئلة، وفتور العناد أو موته. فمثلاً، عدم القدرة على استجواب أحد أهم الأسئلة الكونية الكبرى كالموت، وتقصي كنهه، هو نتيجة واضحة لغياب حاسة التقصي عند هذا الإنسان. فلو وقفنا عند ثنائية الموت والحياة لوجدنا أن هذين السؤالين قد حظيا بحصة كبيرة من العناية والاجتهاد والمشاغبة في أغلب التجارب الإبداعية إن لم تكن كلها. ويجب الانتباه إلى أن إيجاد إجابة لهذا السؤال وفقاً لفلسفة هذا الكائن ليست مهمة بقدر أهمية الفعل ذاته، وهو مساءلة الأحداث الكونية الكبرى عن أسباب حدوثها وإجهاد الحواس مجتمعة للبحث عن تفسير لها .

ساباتو وهو أحد أهم الكتاب الذين انطلقت أصواتهم من أمريكا اللاتينية في القرن التاسع عشر، يقول متحدثاً عن نفسه: ((أعتقد أنني أنتمي إلى سلالة تتلاشى…أؤمن بالمقاهي…أؤمن بالفن… أؤمن بكرامة الفرد…أؤمن بالحرية…منْ مِنَ الناس، وكم عدد أولئك الذين لا يزالون يؤمنون بهذه التفاهات؟! لقد حلّت الشتيمة محل الحوار)). هذا ملمح من ملامح حياة واحد من أولئك الذين رفضوا التعاطي مع الحياة النمطية. فكان الفن هو الوسيلة الوحيدة للتعبير عن الرفض القاطع للصورة التي يعيشها البشر العاديون؛ فمن هنا يكتسب الفن فردانيته بحيث يكون عاكساً لصورة الحياة التي قرر الفنان خوضها، بما فيها من شغب وعناد.

قد لا نستطيع أن نتهم كل مبدع يدخل حاملا معه الدهشة إلى هذا العالم بالجنون (ليس بمعناه الطبي البحت طبعاً، وهو فقدان العقل القدرة على الاتيان بوظائفه الحيوية)، لكن الوقوف على أهم التجارب الإبداعية في تاريخ الإنسانية؛ سوف يقود للفكرة التي أشعلها الكثير من المفكرين من أمثال تشيزَري لومبروزو في القرن التاسع عشر، وهو الطبيب الإيطالي الشهير وعالم الجريمة، الذي روج للفكرة القائلة بأن العبقرية ضرب من ضروب الجنون وشكل من أشكال المرض النفسي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.