شعار قسم مدونات

حقيبة نسائية

blogs - حقيبة يد نسائية 3
"لدي كتاب سيعجبك جدا".. بهذه الطريقة الودودة استقبلني الناشر حليم محمود صاحب دار الحكمة. استدار الصديق وتناول مجلداً مستطيل القطع، بغلاف لا تنقصه الجاذبية وعنوان "الحقيبة النسائية تاريخ مكثف من الإثارة" للمؤلف خالد مطلك.

بعتب وعيون متسائلة نظرت إلى الصديق الذي طالما أمطرني بعناوين ثقيلة، وبسخرية مازحة سألته: "هل قالوا لك إنني غيرت التخصص، وصرت أهتم بحقائب النساء".. وعلق أحد الأصدقاء: بل حليم هو من غير التخصص.. يبدو أنه سيفتح داراً للأزياء، بقي حليم محتفظاً بملامحه الجادة، وبلهجته العراقية، عبر مجدداً عن تقديره الشديد للكتاب، وأصر أن يقدّمه لي هدية، وعبارة تقطع الاعتراض: أنا متأكد ستغيّرين رأيك عندما تقرئينه فهو يقدم بشكل شيق وطريف تاريخ الحقيبة النسائية… أخذت الكتاب ولم أتصفحه.. لكنه كان ينادي بصري كلما بحثت في المكتبة عن غيره..

undefined

أمس في المساء، كنت أبحث عن "كتاب أليف"، وهو تعبير أستخدمه لوصف بعض الكتب الممتعة السلسة، التي تشعر وقت قراءتها بحياد عجيب، ولا تدخلك في أتون الحجاج والمحاججة، وهذا النوع من الكتب ألجأ إليه عندما يكون ذهني مرهقاً. وبينما أنا أبحث عن كتابي الأليف ناداني كتاب حليم مجدداً.. وبعد برهة كنت أدخل في رحلة ممتعة، لتتبع مسار الحقيبة عبر التاريخ والزمن، في تناول لا ينقصه الحديث عن الفن والاجتماع وتحولات المجتمع. لم ينس المؤلف أن يذكر في بداية كتابه أن كتابه فيه آراء شخصية، تعبر عن تذوقه الفني ولا علاقة لها بترويج حقيبة دون أخرى…

إن كان الخيال يحتاج إلى جرعة كبيرة من الجرأة، لتجعل موريس هيرمس يقرر تحويل "عليقة طعام الخيول" إلى حقيبة سفر أنيقة، وتحويل سحاب حقيبة الجنود في الحرب العالمية الأولى إلى حقيبة كلاسيكية بلمسة عصرية.

نعود إلى الكتاب الأليف، فنجد أن أول حقيبة نسائية هي حقيبة عراقية، ومن مدينة الموصل على وجه الخصوص وتعود في تاريخها إلى الفترة (1300-1330) ميلادية، والحقيبة الجلدية المغطاة بالنحاس المطعم بالذهب والفضة، ونقوش لمدينة نينوى، تقيم اليوم في قاعة "كورتولد" للفنون في لندن. والحديث بشأن هذه الحقيبة جاء بعد أبحاث مستفيضة أجرتها الباحثة البريطانية راشيل وارد، التي تقول بأنهم كعلماء تعاملوا مع هذه التحفة الفنية بمنطق القرون الوسطى، الذي صممت فيه هذه القطعة، حيث لم يكن معنى حقيبة اليد النسائية معروفا. ويبدو أن هذه الحقيبة قد اشتراها تاجر تحف من العصر الفكتوري عام 1858، ثم قامت عائلته بإهدائها إلى قاعة كورتولد.

ويسجل المؤلف ملاحظة في غاية الأهمية؛ وهي أن الحقيبة النسائية في طبعتها الموصلية والفلورنسية، لم تكن استهلاكية، بل كان "الجمال" ببعده الفلسفي وليس اليومي التداولي هو الوظيفية الأولى للحقيبة. ولأن هذه الفكرة هي التي يقوم عليها الكتاب، فإن القارئ يجد استغراقاً واضحاً في معالجة الألوان والخطوط والأحجام والملمس، حيث إن ما يتحدث عنه هو قطع فنية في الأساس.

لا يقف دافنشي بعيدا عن "الحقيبة النسائية" فكما صمم مقترحات أولية لطائرة مروحية، ودبابة ومدفع، ورسم الموناليزا المحيرة، رسم تخطيطا للحقيبة النسائية، قبل أن تأخذ شكلها الجديد بصفتها حقيبة تؤدي غرضا وظيفيا وجماليا معاً في القرن التاسع عشر، للنساء والرجال معا. وقبل ذلك لم تكن أكياس القماش بمنأى عن مسار الحقيبة النسائية. وتمتلئ اللوحات من العصر الفكتوري بصور النساء وهن يعلقن "الجزدان البدائي" في أحزمة خصورهن، وصار من النادر أن تغادر امرأة بيتها بدونه. وبعضها كان يطرز عليه حكايات شعبية من ذلك الزمن.

undefined

بأناة تليق بمتذوق، يحدثنا الكتاب عن حقائب هيرمس بوصفه مهندس عصر الحقيبة الحديثة، وحقائب كيلي ولويس فيتون وكريستيان ديور وحقائب شانيل، وغوشي.. وغيرها من الحقائب التي يغزو فيها الجمال الفلسفة. ولأن للحقائب أيضا عوائل عريقة من الجلود والكانفاس، فإن المؤلف ولتبسيط الأمر على هواة حقائب لويس فيتون مثلا، يقسمها إلى أربع عوائل، ويتحدث عن كل واحدة بعين الناقد الفني. ولعل المفارقة تكمن في أن الفلاح الفقير لويس فيتون الذي ولد في قرية على الحدود الفرنسية السويسرية هو نفسه من أسس وصنع حقائب من بين الأغلى ثمنا في العالم.

حقيبة اليد النسائية عكست تحولات المجتمع وأزماته، من الحرب والكساد، لكنها واكبت تطور الفنون بشكل كبير، وليس غريبا أن تكون الراحلة زها حديد ممن صمموا حقائب نسائية لدور كبيرة.

في تفصيل طريف آخر في هذا الكتاب، يجري الحديث عن عصر الثمانينيات والتسعينيات، حيث هيمنة عصر الاستهلاك، وما رافقه من زيادة الوزن وترهل الجسد، وانتعاش سوق الملابس الرياضية، فسارعت الشركات لصناعة حقائب رياضية، وحققت أرباحاً خيالية، فيما زادت السمنة وبقي ترهل الجسد على حاله. وفيما تغص أسواق الحقائب بالملايين منها إلا أن صناعة حقيبة كلاسيكية تحتاج وقتا، فهي قطعة فنية يصنعها خيال فنان ويمنحها من عاطفته تعبيرات لونية وخطية، وإن كان هذا الخيال يحتاج إلى جرعة كبيرة من الجرأة، لتجعل موريس هيرمس يقرر تحويل "عليقة طعام الخيول" إلى حقيبة سفر أنيقة، وتحويل سحاب حقيبة الجنود في الحرب العالمية الأولى إلى حقيبة كلاسيكية بلمسة عصرية حملها إلى باريس عام 1923، وحملته بدورها ليكون من أكثر مصممي الحقائب شهرة.

تقول حكاية حقيبة اليد النسائية إنها عكست تحولات المجتمع وأزماته، من الحرب والكساد وقلق الفرد، لكنها أيضا واكبت تطور الفنون بشكل كبير، ولذلك فليس غريبا أن تكون المعمارية الراحلة زها حديد ممن صمموا حقائب نسائية لدور كبيرة.

أكمل تصفح الكتاب الأليف، لكن فكرة مزعجة تطل برأسها وأنا أتتبع صور الحقائب الباذخة، وهي أن فكرة الحقيبة الحديثة، والحقيبة النسائية على وجه التحديد، تعلن عن نفسها بوضوح كعلامة اجتماعية، عن الانتماء للطبقة، ومستوى الثراء المادي، وقد لا تلتفت صاحبتها إلى المعنى الجمالي الذي تحدث عنه الكتاب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.