شعار قسم مدونات

إدوارد سعيد. البطل الطروادي الأخير

blogs - إدوارد سعيد
لَعَلَّنا بادِئَ ذي بدء لا نُغالي إِنْ قُلْنا: لَقَدِ انْفرَدَ إدوارد سعيد بِمَلكوتِه الفِكْرِيِّ النَّفيسِ بَصَوْتٍ نَقْدِيٍّ صارِمٍ دَوَّى صَداه في المَشْهَدِ النَّقْدِيِّ العالَمِيِّ حتّى غَدا مِنَ الحَقِّ أَنْ يُدْعى صَوْتُه النَّقْديّ بِـ(المَدْرَسَةِ السّعيدِيّة).
إنَّ إِقْرارًا كَهذا لَيَسْتَدْعي نَفْسَه قَبْلَ وُلوجِ مُطالَعَةِ آراءِ مُعارِضي فِكْرِ إدوارد سَعيد الشَّرْقيّينَ مِنهم كـ( مهدي عامل، وعصام فوزي، وأمينة رشيد، وصادق جلال العظم، وآخرين)، والغربيّينَ كـبِرنارْد لويس.

سَلَكَتْ مُحاولاتُ تَصْنيفِ فِكْر إدوارد سعيد -ضمْن أيّ تَيّار أيديولوجيّ يَنْتَمي؟- مَسْلَكَيْنِ مُتَناقِضَيْنِ، فَلَئِنْ أَقَرَّ دارسو تراث إدوارد سعيد النَّقْدي باسْتِعْصاء تصنيفه ضمن تيّار محدَّد، كالبنيوية مثلًا، -الأمر الذي يَشي بِشَكْلٍ سافِرٍ إلى انفراد صوتِه النقديّ، وانْعدام ولائه إلى أيديولوجيا محدَّدة-، وَقَف مُناهِضوه مَوْقفَ القارئ لِقَوْلِه تعالى: (ويلٌ للمُصَلّينَ).

كانَ التيّارُ الماركسيُّ سَيِّدَ المَوْقِفِ الشرقيّ المُناهِض لِرُؤى سَعيد الفكريّة حول الاسْتِشراق، وَمَرَدُّ ذلك إلى اعْتبارِ سعيد في مُؤلَّفِه الاستشراق (ماركس) مُسْتَشْرِقًا حينَ أقَرَّ، أي ماركس، بفائدةِ الاحتلال البريطانيّ على الهند، حيْثُ إنَّ بريطانيا عندَما تُدَمِّرُ آسيا كانت تَزيدُ مِن إمكانيّة خلقِ ثوْرة اجتماعيّة حقيقيّة.

رأى الكُتّابُ الماركسيون أنَّ إدوارد سعيد بِتَصنيفِه ماركس مُسْتَشْرِقًا إنّما يُعادي قيام الثورات الحقيقيّة في العالم العربيِّ لِيُصْبِحَ جِسرًا يربِطُ الإمبرياليّة الغربيّة بالإسلام، كما رأوا في رؤيتِه حول الاسْتشراق أنّه كان أسيرَ الآراءِ البنيويّة الغربية.

حاول لويس في نقده سَعيدًا نزع أية شبهة عن مصطلح الاستشراق من خلال نفي أية صبغة سياسية له، وقد تكفّل سعيد بالردِّ عليه. إنّ عالمَ إدوارد سعيد الفكريّ لَيمتزِجُ فيه الأدبُ بالنقدِ بالإعلامِ بالموسيقى.

لِنَتَّفِقْ بدايةً على أنَّ الحقيقةَ أعظمُ مِن أيِّ شيء، كما أعظم مِن أيِّ شَخْص، حتّى مِن إدوارد سعيد نفسه، فالنّقْدُ الذي وجّهه الماركسيون إلى سعيد كان نقْدًا أيديولوجيًّا حادًّا، فهؤلاء النُّقاد نَسوا، أَوْ تناسوا أنَّ المفكّرَ الأوروبيّ مهما كانت فرديَّتُه فإنّها لن تستطيعَ الإفلاتَ المُطلَق مِن طُغيانِ المُؤسَّسةِ ونفوذ خطابِها كما حصل مع ماركس، كما نسوا، أو تناسوا أنَّ ماركس قد كانَ مُتَّكِئًا في رأيه على الكتاباتِ الأوروبية، والإدارة البريطانيّة حولَ الشَّرق – وهو أمر لا يحتاج إلى تأويل-، كما نَسوا أنَّ ماركس قَدْ ظَلَّ أسيرَ النَّظرة الاستعلائية الغربية، فهو، وإن كان يدعو إلى تحرّر الطّبقة العاملة(البلورتاريا) بَيْدَ أنّه رأى (كما يُثْبِتُ المفكِّرُ المغربيّ محمد عابد الجابري) أنَّ على الطّبقة العاملة الغير أوروبيّة الالتصاق بالعمّال الأوروبيّين.

في كتابِه: (العالم، النّص، الناقد) يَطرَحُ سعيد آراءه النّقديّة التي سيعتمدُ عليها فيما يكْتبُه بَعْدُ، إذْ يُقِرُّ فيه بِدنيويّة النّصوص، فالنصوص دائمًا مرتبطة بالظُّروف، هذا الإقرار قد اعتمد عليه سعيد- مِن بين ما اعتمد- في تَفكيك النُّصوص الاستشراقية، والسُّؤال: كيف يكون سعيد بنيويًّا محضًا، كما ادّعت خصومُه، وهو يناقض بقوله بالدنيويّة أحدَ أركان البنيوية، اللّازمنية؟، فالبنيوية لم تلقِ بالًا إلى زمن كتابة النّص، وقد شنّ سعيد في مؤلَّفه هجومًا حول انغلاق البنيوية، كما ذهب إلى معارضةِ بعض نقّاد البنيوية، وما بعدها كـجاك دريدا.

إنّنا لا نُنْكِرُ إفادة سعيد مِن البنيوية، واعْتماده في التّحليل الاستشراقيِّ على ما طرحته مِن وجود بنية كليّة تحكم البنى الأخرى، كما لا ننكرُ إفادة سعيد مِن ميشيل فوكو حول نظام تحليل الخطاب: (المعرفة، السلطة، الخطاب) بَيْد إنّنا ننكر القول باستنساخِ سعيد لآراء البنيوية، وولائِه لها، فالعناصر الدنيوية – كون النصوص قسطًا من العالم الاجتماعي، والحياة الإنسانية، واللحظات التاريخية- ظلت في هاجس سعيد، ولم تفارِقْه، بل إنّ بعضَ الدارسينَ مَنْ ذهب إلى القوْلِ بتجاوُزِ سعيد رؤية فوكو في تحليل الخطاب.

لقد شكّل نقد برنارد لويس دلالة حية على المركزيّة الغربية الأميركيّة من حيث الاحتكاريّة والمعيارية في مواجهة الآخر، حتى لو كان ناقدًا جُهبذًا كإدوارد سعيد، ففي حواره مع لويس سُلبَ سعيد حقَّ الكلام في الاستشراق، لأنه غير متخصص في الاستشراق، ففي الولايات المتّحدة أُلْبِسَ المتخصِّص ثَوْبَ المستشرق.

حاول لويس في نقده سَعيدًا نزع أية شبهة عن مصطلح الاستشراق من خلال نفي أية صبغة سياسية له، وقد تكفّل سعيد بالردِّ عليه. إنّ عالمَ إدوارد سعيد الفكريّ لَيمتزِجُ فيه الأدبُ بالنقدِ بالإعلامِ بالموسيقى، عالم لا يعلِنُ ولاءه وانتماءَه إلّا لسؤالِ الضحيّة السرمديّ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.