شعار قسم مدونات

الرواية.. أكذوبة العمق

blogs رواية

صوت فيروز مع كوب القهوة الغامق، إلى جوار رواية فلسفية ذات عنوان غامض.. تلك هي أيقونات العمق والثقافة في تطورها الأخير لدى المجتمع العربي -والمصري منه على وجه الخصوص، لكنَّ أحدا من عماق هذا المجتمع لا يعرف على وجه الدقة لماذا تم ترميز تلك الأيقونات تحديدا لدى مجتمع الثقافة، وأي نوع من الثقافة تراد بهذه الحالة، وهل الرواية كلون أدبي معاصر تستحق ما ينفق فيها من كتابة وقراءة، لا سيما إذا أراد المحصل الأخير منها بناء وعي ثقافي أصيل؟

 

قبل أشهر، انقطعتْ صاحبتنا عن الكتابة، بعد أن كانت مقطوعاتها تجد صدى كبيرا بين القارئين، الذين عزا أغلبهم انقطاعها إلى الحالة السياسية والاجتماعية المصرية وما بعثته في النفوس من يأس وقنوط.. لكن ما لبثت صاحبتنا أن كشفت عن سبب غيابها فجأة؛ إذ كانت تعكف على كتابة رواية تُدخلها سوق العمق والعماق.. عادت الفتاة إلى الكتابة القديمة من جديد، فوجدت قلمها مستغرقا في السرد الملول، والتفاصيل المرهقة، لها، قبل القارئين.

 

بشكل عام، الرواية لون أدبي حديث النشأة والميلاد، بالكاد تستطيع أن تتلمس أول ملامحه في الأربعينيات والخمسينيات، وهي مرحلة بينية ضيقة ضمن التاريخ الأدبي العربي الذي كان يعاني وقتها ضمورا طاغيا. يحكي النقاد حول محمد حسين هيكل وروايته زينب في الخمسينيات من القرن الماضي، كأول تجربة روائية عربية مكتملة العناصر، بينما يضرب آخرون في جذور الإرهاصات بحثا بين كتابات المنفلوطي عن وحدة بنائية يمكن لصقها بالرواية وإن اتسمت بالمقالية الطويلة وجواب الحوار الممتد على طول خمس صفحات.

 

قبل أن تتنفس الرواية الصعداء إبان جيلها الذهبي، ظهرت السينما، فوضعت العمل الروائي في زاوية أكثر ضيقا، وصارت كتابة السيناريو أكثر رجائية ونفعا من سردية الرواية المقفرة

جاءت الرواية بعد سنوات من مرض الشعر العربي مع غيره من ألوان الأدب الأصولية الأصيلة، فظهرت الرواية كمحاولة للجمع بين المقالية التي انتعشت استجابة للخطابة والصحافة، والقصصية التي كانت حاضرة في التاريخ الأدبي عبر تاريخه. بدأت الرواية تجد لنفسها مكانا بسبب التراجع الكبير في فنون الأدب العربي الأخرى، وانحدار الذائقة الأدبية، وانتعاش الطباعة وسوق الترجمات.. وهكذا راحت الرواية تنطلق بسرعة الصاروخ نحو قمة النظم الأدبي المعاصر.

 

استجابة لتلك التحولات، انتفخت الرواية في عصر الجرائد، وأنجبت جيلها الذهبي المخضرم، وأضحت الرواية مع الوقت بطاقة التأهل لمن يريد أن يلتحق بأسطول المثقفين، فانبرى كثير من الكتاب -الشباب خصوصا- في محاولات روائية، استقبلها دور الطباعة بذكاء، فصرت ترى شباب يجاور الثلاثين وله في "الأسواق" ثلاث روايات ويزيد، متوهما بذلك -وبالاستضافات التي يحظى بها- أنه حجز مقعده بين النخبة باستحقاق قدير. لقد تغير مفهوم الثقافة كثيرا في عهد الرواية، أو لنقل إن تغيّر مفهوم الثقافة هو الذي أنتج الرواية كلون أدبي ذائع.. ربما يمكننا تفهم أسباب ظهور الرواية في عصورها الأولى، لكن استمرارها إلى اليوم كلون أدبي تثقيفي هو أمر يستحق البحث والتأمل.

 

على أي حال، وقبل أن تتنفس الرواية الصعداء إبان جيلها الذهبي، ظهرت السينما، فوضعت العمل الروائي في زاوية أكثر ضيقا، وصارت كتابة السيناريو أكثر رجائية ونفعا من سردية الرواية المقفرة، وأصبحت الرواية "المحظوظة" هي التي تجد من يحوّلها إلى سيناريو وحوار. الآن، تراجعت الرواية إلى موقعها الذي لم تكد تبرح عنه منذ انطلقت إلا بعض سنوات، وأصبح لها جمهور خاص، نخبة مريدة، وجوائز مغلقة، بينما عوام الجمهور يجد في السينما سلوى للخيال والفن.

 

إن كتّاب الرواية متأخرون عن مجاراة زمانهم، وغير مستوعبين لخصوصية القارئ الجديد، القارئ الملول المتعجل، الذي صار يعتبر السينما من رموز الجيل السابق أمام أحضان الميديا الجديدة، هذا النوع من الجمهور لن يكون من أصحاب المزاج الروائي أبدا

بدت السينما ترث عرش الرواية المكتوبة، وكعادة الحداثة حين يرفضها الأصوليون، فقد أدى عزوف كثير من الروائيين الأقوياء عن كتابة السيناريو، جعل المحتوى المكتوب في كثير من الأعمال السينمائية ضعيفا، وأصبح مجال الكتابة المرئية متروكا للمتردية والنطيحة وما أكل السبع.. بينما يُصر كتاب الرواية على التمسك باللون الأدبي الذي أتقنوه، فلا وصلوا للناس ولا وصل الناس إليهم.

 

إن كتّاب الرواية متأخرون عن مجاراة زمانهم، وغير مستوعبين لخصوصية القارئ الجديد، القارئ الملول المتعجل، الذي صار يعتبر السينما من رموز الجيل السابق أمام أحضان الميديا الجديدة، هذا النوع من الجمهور لن يكون من أصحاب المزاج الروائي أبدا.

 

المُحصلة في النهاية أنك إذا كنت كاتبا، فابتعد عن الرواية لأنها لون لا مستقبل له بعد سنوات إلا بين دوائر النخبة الثقافية المزيفة، واتجه إلى السيناريو حيث تجد الجمهور ويجدك.. وإذا كنت قارئا فابتعد عن الرواية لأنها تفصلك عن جيلك ومستقبل بنائه للمعرفة والتلقي، وتحرمك من تحصيل كثير من المعارف، بينما يمكنك أن تتشرب بمادة الرواية كلها في ساعة واحدة بقاعة السينما.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.