شعار قسم مدونات

وطن للإيجار

الانتماء

قمّة العذاب البصري للجائع والفقير والمحروم أن تعرض عليه دعاية تلفزيونية لأطايب الطعام أو أن تضع أمامه قائمة من الوجبات المصوّرة ثم تسحبها من بين يديه قبل أن يختار أو حتى أن تنضج المكوّنات في خياله.. وقمة العذاب الفكري للعربي الضائع و المهمّش  والمحروم  أن تعرض  أمامه نموذجاً للوطن الحلم ثم تسحبه من بين يديه قبل أن يجرّب مذاق المواطنة أو تنضج مكونات الوطن في خياله.

 

الرئيس الفرنسي المنتخب "ايمانيول ماكرون" لم يرغب أن يبهر العالم في وسامته أو أناقته في يوم التنصيب ، فالوسامة ليست من إبداعه ولا هي واحدة من بنود  برنامجه الانتخابي،  كما أنه لم يخض الانتخابات الرئاسية ليستعرض عليهم قوامه الرشيق وخامات القماش ودور الأزياء التي يفضّلها ، لذا فقد  حاول أن ينأى بنفسه عن الشبهات منذ اليوم الأول محارباً الاسراف والبذخ فارتدى بدلة بسيطة يستطيع أي موظف فرنسي متوسّط الدخل أن يقتنيها..أما زوجته فقد استعارت ثوباً أزرق من احد دور الأزياء في باريس لغايات الظهور به في حفل التنصيب ثم أعادته في اليوم التالي لأصحابه ..سيدة فرنسا الأولى لم تفكّر  أن تقتني ثوب التنصيب ولو من باب الذكرى في رسالة واضحة للشعب الفرنسي : "نحن هنا لنتقشف ونخدمكم لا نبهركم في ثيابنا وألواننا وإبداعات المصممين العالميين لنا".

 

زوجة الرئيس الفرنسي ترتدي ثوباً مستعاراً وخزائن السيدات الأول في العالم والعالم العربي  كافية أن تشبع الشعوب الجائعة وتسدّ نصف المديونيات،  "فالبروتيلات" المهملة ومنتهية "الموضة" وحدها قادرة أن تساهم في تنمية أوطان معدمة و تنقذ عشرات الأسر العفيفة ، ومع ذلك ما زلن يمارسن التحدّي  في كل ظهور كيف يبهرن الحضور، كيف ستتخاطف مجلاّت الارتزاق  صورهن على الأغلفة كيف يصبحن حديث العالم في اليوم التالي؟!! .." بريجيت ترونيو" أصبحت حديث العالم في اليوم التالي بسبب ثوبها المستعار وأصبحت محط أنظار واحترام وتقدير لأبناء شعبها فهي تعرف موقعها جيّداً ومكانها وحدودها  كزوجة رئيس لا عارضة أزياء أو نجمة غناء ..هي تعرف أنها وصلت إلى الإليزيه برفقة زوجها ،الذي أُنتخبَ  ليخدم فرنسا ويمضي بها إلى الأمام، لا ليستثمرها كقطعة أرض تجارية!

 

لا أريد أن أنجرّ في "أسطرتهما" ، لكن هذا ما قرأناه   من الجملة الأولى في الرسالة الأولى ،قد نخدع وقد نسمع بعد سنوات أو شهور عن فسادهما – ربما- لا أدري.. لكن على الأقل لقد أتقنا إيصال الرسالة ورشّا الرذاذ على شفاه العطشى للحاكم المخلص الوطني القريب من شعبه …ولو حلماً…ولو في فرنسا!

 

بصراحة لم نعد نسعى للتملك.. ففي هذا الزمن المستعار حتى الأوطان صارت للإيجار، الأوطان لم تعد ملكاَ لأحد لقد أصبحت عقارات كبيرة يتغير السكان فيها في أي وقت وترفع قضايا إخلاء دولية وتؤجر لغيرهم

كلما استعرض العربي "كتالوج" الديمقراطيات في العالم  وهو يجلس على كرسي الانقياد في قطار التوريث والنفوذ والفساد والاستملاك الأبدي أدرك  كم أصبحت  روحه متعبة ، وكلما نظر  من نافذة الإعلام الصغيرة وشاهد الأوطان القوية المتينة القائمة على إرادة الشعوب وخيار الشعوب ومحاسبة الشعوب وأصوات  الشعوب صار يبحث عن وطن للإيجار،  تمر الديمقراطيات العظيمة أمام عينيه سريعاً  وهو في قطار الاختطاف يتمنى القفز في أي لحظة.. التدحرج بين القارات الممتدة، ليطرق بوابات العواصم آناء الإحباط وأطراف اللجوء يبحث عن وطن يمسح دمعه كلما أوجعه سرّاق الوطن.

 

صدقوني أنا أيضاَ أبحث عن وطنٍ يمسح دمعي، وطن يخبئني خلفه كلما طاردني سماسرة المبادئ والوطنيات، وطن يحميني إذا ما حميته أو دافعت عنه أو بكيت لأجله، أبحث عن وطن يشبه أبي، يساوي بين أبنائه، يبتسم لي برغم أوجاعه، وطن لا يشيب ولا يغيب ولا يفقد الأهلية مهما تقدّم به العمر، وطن  لا يحنى ظهره فيستخفّه الهمل ،وطن قوي مثل كل الآباء القدامى .

 

 أبحث عن وطن للإيجار، لا يهمني أن كان صغيراً أو كبيراً واسعاً أو ضيقاً دافئاً أو بارداً.. أريده وطناً عادلاً وحسب، وطناً خالياً من أشباح السلطة وشركائهم والفاسدين وحلفائهم، أريد وطناً مستأجراً لي ولكل الحالمين مثلي نكبر فيه ونموت فيه بطمأنينة وحب لا ينغصّ على انتمائنا أحد، بصراحة لم نعد نسعى للتملك.. ففي هذا الزمن المستعار حتى الأوطان صارت للإيجار، الأوطان لم تعد ملكاَ لأحد لقد أصبحت عقارات كبيرة يتغير السكان فيها في أي وقت وترفع قضايا إخلاء دولية  وتؤجر لغيرهم ، لم تعد الأوطان بمفهومها الرومانسي العتيق الذي عهدناه ..أبحث عن وطن للإيجار أدفع ثمن إقامتي فيه لأعيش كريماً بقية العمر.

 

أريد وطناً يحترمني تحت ترابه كما احترمته فوق ترابه!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.