شعار قسم مدونات

فريدريك نيتشه بعمامة عربية

blogs جبران خليل جبران

منذ سقوط غرناطة والمسلمون يحاولون اللحاق بركب النهضة، فكانت النماذج المختلفة لتقدّم الأمم وازدهارها يلعب دور الجاذب وأحيانا المبهر للطبقة المثقفة العربية، حيث أجاد بعض العرب المسلمين النهل منها، ترجمتها وتقديمها إلى الجمهور العربي المسلم على أنها الخلاص من عداء وحدة الأمة وتوحد الذات العربية. بعض العرب غرق في جلد الذات المنهكة أصلا بمتاعب التشرذم والطائفية، والبعض الآخر حاول الذوبان في قيم لأمم أخرى، والأغلبية المسحوقة بقيت تتفرج، فلا هي بالممسكة بخيوط النهضة، ولا هي بالمرتكزة على الكنز التاريخي المعرفي للأمة المسلمة خلال أزمنة خلت.

هناك عوامل عديدة لهذه الحالة العربية المؤسفة، لكن الدارس لها والمتمعن فيها سيدرك بأنها مرحلة تاريخية وإن طالت، فلا بد منها من أجل العودة إلى صعود إحدى عربات قطار البشرية الذي لم يتوقف منذ البدء، وهو الذي يطلق صفير العلوم والفكر بشكل مستمر. وضمن النوتة العربية لحال الأمة، تبقى النهضة الأوربية أقرب النماذج إليها، حيث تحضر في الأذهان العربية الثورة الفرنسية ضد الملكية والنبلاء مطالبة بالحرية والمساواة والإخاء، وكذلك تنبلج الثورة الصناعية الكبرى في إنجلترا، دون أن ننس الثورة الفكرية في ألمانيا وريثة اليونان القديمة.

 

الفيلسوف نيتشه فريدريك (1844-1900)، هو إنسان مثير للجدل حتى الآن، حيث يعتبره الدارسون له ثورة فريدة لم تتكرر حتى أيامنا هذه، لكن بعيدا عن الأحكام التي سيقت في حقه، فقد كان أحد أبرز الأعمدة في الجامعات الجرمانية

كثير من العرب اليوم يحلمون بألمانيا، الهجرة إلى هذا البلد يعد بمثابة دخول الجنة، وما حدث للاجئين سوريين خير دليل على هذا، حيث صارت برلين بمثابة دار أبي سفيان، من دخلها فقد صار آمنا. لكن المدقق في "النهضة الألمانية" حتما سيصل إلى كلمة سرها، تلك التي تدعى بـ: الفلسفة الألمانية، فقد أنجبت هذه الأرض عمالقة في هذا المجال، حيث لا يتسع هذا المقام لعدّهم وإحصائهم، ربما أبرزهم الفيلسوف هيغل، كانط، هيدغر، هورسل …. وغيرهم كثيرون. 

أبرز هذه الأسماء الفكرية وربما عرابها هو الفيلسوف نيتشه فريدريك (1844-1900)، هو إنسان مثير للجدل حتى الآن، حيث يعتبره الدارسون له ثورة فريدة لم تتكرر حتى أيامنا هذه، لكن بعيدا عن الأحكام التي سيقت في حقه، فقد كان أحد أبرز الأعمدة في الجامعات الجرمانية ولا يزال، ومن هذه الفكرة دون غيرها، نحاول الالتفات إليه، لعلنا ننفض بعض الغبار عن بعض مفرداته، لنكوّن منها بعض الآفاق لمشروع عربي يبحث عن ذاته وحضوره وسط عالم ملتهب. 

لهذا المجنون المفكّر الكثير من المؤلفات والمخطوطات، حتى أنّ أسلوبه في الكتابة يعدّ علما في البيان، لأنه تمرّد على النمط السائد في عصره، خرج عن القاعدة وهو المدرّس لقواعد البيان في أروقة الجامعات الألمانية، حيث بدل أن يكتب حروفا فقد كتب شفرات وألغازا، وهي عبارة عن فقرات تسمى بـ: الشذرات؛ هي كلمات مرصوفة في سطور تتسع على حسب القالب الذي يؤسسه الكاتب، بحيث تتناول موضوعا معيّنا بأبعاده كافة، وهي ترصد أهمّ ما يتعلّق به، بحيث تصبح جاهزة للتدوين بشكل شاعري عميق المعنى بلا بحر محدود بشواطئ التقليم العملي لقواعد اللغة التقليدية. 
 

سار على الطريق الكاتب العربي الكبير جبران خليل جبران، بحيث كتب شذرات هامة في معاني ومواضيع تهم الإنسان والحياة بشكل عام، بحيث يعتبر أسلوبه قريبا جدا إلى أسلوب الفيلسوف نتشه

من هنا، يتيح لنا نيتشه أن ننادي بتطوير اللغة العربية عبر إضافة الكثير للسان العرب، نعم! قد يجادل البعض بأن اللسان العربي له من القوة ما يمكنه من احتواء العلوم والفلسفات مهما كانت معانيها، وهذا من الصواب يقتات أكثر من نهله من غيره، لكن القانون الإلهي الموجود ضمن جوهر البشر، يحتّم على السائرين على طريق البحث والتقصي، أن يحاولوا التجديد والترميم على الدوام، واللسان العربي لن يكون استثناء في هذا المجال، لأنه يعتبر من أهمّ ما أبدعه العربيّ الإنسان الناقص أمام كمال الله، فأشعار الجاهلية التي بلغت مبلغا هاما من البلاغة والبناء، بقيت عاجزة أمام المنبع القرآني، ومع أنّ الإنسان العربي لن يصل مهما فعل إلى عتبة الكتابة والمعاني القرآنية، إلاّ أنّ هذه الميزة لن تكون عامل مثبطا، أو دعوة إلى الخمول والكسل، فكل إنتاج إنساني هو بحاجة دائمة للتجديد وإعادة التشييد. 

لقد سار على هذا الطريق الكاتب العربي الكبير جبران خليل جبران، بحيث كتب شذرات هامة في معاني ومواضيع تهم الإنسان والحياة بشكل عام، بحيث يعتبر أسلوبه قريبا جدا إلى أسلوب الفيلسوف نيتشه، بل إن بعض العرب يعتبرونه أحد تلاميذ هذا الألماني الظاهرة، بحيث عمد جبران إلى تقليص الصفات واستخدام الاستعارات مع الاجتهاد في التعبير عن الفكرة الموجهة لكل موضوع مع الأخذ في الاعتبار حضور المفيد الجديد في كل فكرة، وهذا بالضبط ما أخذه الفيلسوف نيتشه بالحسبان أيضا. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.