شعار قسم مدونات

في الغيرة والحسد

مدونات- شخص ينظر

المشاعر القلبية لا يستطيع الإنسان أن يتحكم بها، أي أن يمنع ظهورها أو يأمر نفسه بظهورها، هي وليدة اللحظة وصاحبة سطوة على القلب، كالغضب والحب والكره والغيرة والإعجاب والحزن والألم والقهر والخوف، لذا ليس من السليم تَخْطيء الذاتِ والشعورُ بالحرج منها لمجرد الشعور ما دامت لم تُتَرجم إلى فعل خاطئ يؤذي فيه الإنسان نفسه أو من حوله كأن يمنع نفسه أو الآخرين من كسب منفعة أو أن يقوم بكسر قيمةٍ أو مبدئٍ مخالفا الصحيح مرتكبا لما هو خاطئ.
 

من هذه المشاعر والتي هي متكررة كثيرا بين الناس مشاعر الغيرة والحسد، وهذان الشعوران متقاربان في إشعال نار القلب وبينهما اختلاف في التفكير، الشاعر بالغيرة يتمنى ما أعجبه في الآخر أن يكون له مثله دون التركيز كليا على الآخر والتركيز جزئيا على الذات، أما الحاسد فإنه يتمنى زوال ما أعجبه من نعمة عند الآخر، فهو تركيز كلي على الآخر مع إهمال للذات لكنه لا يخلو من أن تصاحبه مشاعر غيرة (حاسد يحسد صديقه لِغِناه المالي، يحاول أكثر من مرة تشتيته عن تركيزه في عمله واستثماره، إدخاله في صفقات خاسرة، تسليط ناس عليه لنهبه ثم تفشل محاولاته فيلجأ إلى السرقة الصغيرة لملء جيبه.

الدين يحث على الاستجابة لغيرة الإعجاب بقيمة ومبدأ أخلاقي عند آخر، لأن القيم يمكن اكتسابها وليست حكرا لأحد، الغيرة التي تدفع بالإنسان للتركيز على بذل الجهد وليست على النتيجة.

هنا حاول الانتفاع والتركيز على الذات كترجمة عن الغيرة بعدما فشلت ترجمات الحسد) فغالبا ما يحمل الحاسد مشاعر غيرة أيضا أي أنه يرغب في الانتفاع الذاتي، إلا أن خطورة الاستجابة للشعور بالغيرة تكمن في أنها تفتح بابا كبيرا للاستجابة للشعور بالحسد (فتاة تغار من أخرى لجمالها وإعجاب الآخرين بها، تلجأ لشتى الوسائل لرفع جمالها لكنها لا تحصل على ما تمنته، فتتصرف مركزة على إيذاء الأخرى، تحول شعور الغيرة إلى حسد) من الممكن القول أن كل حاسد غيور بينما ليس كل غيور بحاسد.
 

لماذا أقول "الاستجابة للشعور"؟ لأنني كما ذكرت ليس الخطأ لمجرد شعور الإنسان، وإنما للاستجابة له والقيام بترجمته إلى أفعال ظاهرة تؤذي النفس والآخرين. كثرة شعور إنسان ما بالحسد تجاه الآخرين عيب ناتج عن سوء وجمود في التفكير، وأركز على كثرة لأنها دليل على استجابة الفرد لهذا الشعور مرات كثيرة والقيام بأفعال جعلت من هذا الشعور ضيف يكرر القدوم، الحاسد يعتقد بأن الآخرين مجرد كائنات بلا معنى وجودهم عبء على الكرة الأرضية، يراهم ممتلئين بالغباء والعلل، لا يقدمون ولن يقدموا شيئا ذا معنى، فهو يحوي الانتقاص من ذوات الآخرين والاستخفاف بهم وعدم احترامهم، وجود نعمة لديهم تثير الإعجاب عند الحاسد يُضعف ويُشكّك بقوة هذه الاعتقادات لديه مما يجعله يشعر بالتهديد فيلجأ للتعبير عن هذا الشعور بأفعال تزيل النعم عنهم.
 

والحاسد بحسده يسيء الأدب مع الله، إذ ليس لديه إدراك ما هي أعماله على الأرض وما هي أعمال الله، أعني من أوجد الأذكياء بهذا الذكاء؟ من خلق الجميلين والجميلات؟ من كتب الأرزاق وقَسّمَها؟ وأعطى كل إنسان ما أعطاه من نعم؟ وقدّر لكل إنسان ما سيأخذه أو يُحرَمُ منه؟ أليس الله عز وجل؟

إذن أليس القيام بعمل يقصد به زوال النعمة عن الآخرين هو عدم تفرقة بين أعماله وأعمال الله؟ وأليس هذا سوء أدب مع الله؟َ! أن يعتقد أن فلان لا يستحق هذه النعمة ويرجو زوالها، وأن فلانة أُصيبت بمصيبة لأن الله يعاقبها لأنها سيئة، ولماذا فلان أفضل مني في أداء الأعمال وليته ليس كذلك، وكيف يستطيع علان أن يتقبل صعوبات الحياة ويطور مهاراته وليته ليس كذلك، والكثير من الاعتقادات والأقوال الحسودة التي تتمنى زوال نعم الآخرين كنتيجة لعدم احترام الحاسد لوجودهم ولذواتهم ولاختلافهم ونتيجةً لسوءِ أدبٍ مع الله، وهو بهذا يُضيعُ ذاته فلا يتعلم ولا يتطور ولا يجد نفسه لأن اليد لا تحمل (بطيختين) إما أن تركز على ما بين يديك من نعم أو أن تُضِيع عمرك مادّا عَينيك إلى ما بين أيدي الآخرين.
 

إذا واجهت حاسدا يحسدك لا تتهمه بالحسد، لكن واجه ما يفعله أو يقوله إظهارا لحسده بحزم، أظهر قلة احترام لتصرفاته السيئة كأن تحرجه، إنه لن ينتبه إلى أنه ينتقص من الآخرين إلا إذا شرب من نفس الكأس وأدرك أنه عليه أن يَحترم كي يُحترم.

أما الغيرة فهي تدفع بالإنسان أن يطور نفسه، أن يرى ماذا يستطيع أن يكتسب وكيف يستطيع أن يُحسن ما يمكن تحسينه، كيف يستطيع أن يطور ذاته من تجاربه في الحياة ومن التعرف على الآخرين ورؤية ما يميزهم وتبادل المنفعة معهم، إلا أن الخدعة الصغيرة في شعور الغيرة هي أن يدقق الفرد من ماذا يغار وإلى أي حد يرى أنه يستطيع اكتساب شيء ما أعجبه في آخر؟ للتوضيح مثلا أن تغار فتاة من أخرى شقراء عيونها زرقاء طويلة نحيلة، وهي سمراء قصيرة، ماذا يمكنها أن تفعل؟ عمليات ساحقة حارقة للوصول لنسخة الباربي تلك؟! هنا تتدخل معرفة الإنسان وإلى أي قدر يملأ رأسه بأفكار صحيحة، حسنا غارت من جمال تلك الفتاة، هل الجمال نوع واحد؟ ثم إن كانت تلك تجذب إعجاب عدد كثير من الناس وتبهرهم ما أهمية ذلك؟ صدقا كقيمة ما أهميته؟

لا شيء، هل كل نعمة رأيتها عند آخر يجب ويلزم أن أكون صاحبها أو أن أكتسب مثلها؟ ما فائدة الاختلاف إذا؟! تتدخل هذه المعرفة لتوجه الإنسان إلى الأمور التي من الجيد أن يغار منها حتى يدفع نفسه للتطور وتحدد هذه المعرفة للفرد الحد الذي يمكنه اكتساب شيء ما أعجبه، فإن لم يكن هناك معرفة تتدخل فإن انتقاص الآخرين وسوء الأدب مع الله -الحارسان لباب الحسد- يفتحان بابا كبيرا إليه تدفع لاجتيازه رياح عاتية، ولذا فإن الدين يحث على الاستجابة لغيرة الإعجاب بقيمة ومبدأ أخلاقي عند آخر، لأن القيم يمكن اكتسابها وليست حكرا لأحد، الغيرة التي تدفع بالإنسان للتركيز على بذل الجهد وليست على النتيجة.
 

إذا واجهت حاسدا يحسدك لا تتهمه بالحسد، لكن واجه ما يفعله أو يقوله إظهارا لحسده بحزم، أظهر قلة احترام لتصرفاته السيئة كأن تحرجه، إنه لن ينتبه إلى أنه ينتقص من الآخرين إلا إذا شرب من نفس الكأس وأدرك أنه عليه أن يَحترم كي يُحترم، وذكره جيدا بأعماله على الأرض وعدم التحدث عن ضرورة إعادة توزيع للنعم والأرزاق بين العباد فهي من أعمال الخالق! وإن استطعت اركض بسرعة، اركض بعيدا ولا تقترب، أما إن واجهت غيورا فإنه يفيد التطلف معه (على قدر طاقتك) وأن تشير إلى أن تقسيم الأرزاق بيد الله، وأن الإنسان يعلو بقدر ما يبذل من جهد وأن الاختلاف نعمة، وأن ما نشعر به من ألم لفقدنا شيء ما موجه لنا حتى نتعلم أمورا كنا سوف نجهلها لو لم نتألم، التلطف مع الغيور يمنعه من اجتياز باب الحسد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.