شعار قسم مدونات

أريد بنطال جينز للعيد

blogs سجن
في تمام الساعة الخامسة فجراً، يحملُ أهالي الأسرى زادهم وما يحتاجُه أبناؤهم في سجون الاحتلال، منطلقين إلى نقاط التّجمع التي ستحملهم منْها حافلات الصليب الأحمر إلى المُعتقلات لزيارة ذويهم. العائلة التي تزور قريبها للمرّة الأولى تُعرفُ من أوّل وهلة، إذ أنها تسأل كثيرا، وتعدّ الساعات، تُحضر الكثير من الحاجيات، وتجلسُ في المقعد الأقرب لباب الحافلة.. تظنّ أنها بذلك ستصل أولاً، دون أن تُدركَ عدد محطّات الانتظار التي ستكوي مع الشّوق صبرها.
غالبية الفلسطينيين باتوا على دراية تامة أن لا أحد فيهم مستثنى من انتهاكات الاحتلال، سواءً اقترف "جُرما" وطنيّأ أم لم يفعل، وهذا ما حصلَ معنا.. خلدْنا إلى النّوم غير آبهين بخفافيش اللّيل التي ما انفكّت تُقلق راحتنا.. دُقّ الباب بقوّة، فأدركنا ما صار لزاما علينا أن نشرب من نفس الكأس الذي مرّرته كف الاحتلال على بيوت المُخيمات، القرى والمدن الفلسطينية.

لا حاجة لوصفِ الحدث، هو خبرٌ يوميّ مُكرّر.. المهم أننا بعدَ مُحاولاتٍ عدّة استطعنا ضمّ "مُحمّد" والهمسَ في أُذنه: "ستعود قريبا"، ثُم أعددنا أنفسنا للانتظار.. غير الرغبة بالإفراج عنه.. انتظرنا مُطوّلا صدور التّصاريح لتُتاح لنا الزّيارة.

كانت والدتي تناقشه عن كيفية إدخال بنطال جينز إلى السجن، وأن عليها التواصل مع أهالي أسرى إداريين، إن لم يكن بنطال جينز أحضريه بقماش "الكتان"..  انقطع الاتصال، صرخنا وصرخ دون أن يتمكن أحدنا من سماع الآخر.

بعد أربعة محاكم مرّت بشهرين ونصف من الانتظار، سُمح لنا بالزّيارة.. في الطّريق كُنّا نُلملِمُ الحكايا لنسردها عليه، نُفكّر بالشيء الذي سيُضحكه لنحكيه، وما قد يبكيه لنتجنّبه، فُلان سأل عنْك، فُلان لا ندري ما ظرفه الذي منعه عن السّؤال، فلان خطب وفلانة تزوّجت.. أشهر قليلة والكثير من الأحداث المُكرّرة فيها.

بعدَ انتظار طويل، ومحطّة تلقفتنا عُقب محطّة، وصلنا.. في صفّ طويل وقفت والدتي كي تعطي للجندي حاجيّات "مُحمد" من بناطيل، قمصان قطنية، ملابس داخلية، جوارب، أغطية سرير، تلك التي كتبنا على ورقة المقاسات فيها اسمه كي تصلَ إليه.. وبعدَ تفتيشها سمح بإدخال بعضها وأعاد السجّان إلينا البعض.. على شباك آخر أدخلنا النّقود، ودفعنا عبر شبّاك ثالث ثمن السجائر رُغم أن محمّد لا يدخّنها، لكن ليبيعها في السّجن فيحصل على النّقود بشكل أسرع، إذ أن النقود التي نرفقها بحسابه تحتاج إلى ثمانية أيام لتصل إليه، في حين لا تستغرق السجائر سوى يومين.

على طابور آخر وقفنا نمدّ للسجان خمسة صور طلبهم منّا كي يُؤنس بها عزلته عن العالم الخارجي، وسُمح لنا بالدّخول إلى غرفة الزيارة بعدها. صندوق زجاج عازل للصوت يُوجد به العشرات من الأسرى، هاتفين في خارج الصندوق لذوي الأسير وهاتفٌ ثالث داخله له، عدّاد وقتٍ فوق الصّندوق يعد الدقائق والثواني التي تجري بالـ 45 دقيقة ليعود بعدها الأسير إلى عزلته وحنينه.. وهي مُدّة الزيارة.

"كيف حالكم" أعاد "مُحمد" علينا نفس السؤال أكثر من عشر مرّات، حكى لنا كيف جرى اعتقاله وماذا استفاد من الأسر، أبلغته والدتي بالحاجيّات التي أدخلتها له، عن قضيّته ورأي المحامي وكم سيمكث في السّجن وكيف حال رفاقه، المُخيّم، العائلة، كيف سيُعوّض غيابه عن الدّراسة، يضحك قليلاً، تظهرُ ثلاثة خطوط على جبينه حينما يمسك دموعه، يسكتُ، ثم ينظر إلى الساعة، الوقت يمشي، هل تُريد أن نُحضر لك شيئا في الزيارة القادمة؟

سألت نفسي مراراً بعدها، هل يشعرُ الأسرى حقّاً بطعم العيد لو ارتدوا بنطالاً جديداً دون أن يخرجوا منْه لبناتهم، أمّهاتهم، زوجاتهم أو شقيقاتهم- العيدية التي ينتظرنها؟!

"أريد بنطال جينز للعيد".. كانت والدتي تناقشه عن كيفية إدخاله، وأن عليها التواصل مع أهالي أسرى إداريين، إن لم يكن بنطال جينز أحضريه بقماش "الكتان".. انتهى الوقت، وانقطع الاتصال، صرخنا وصرخ دون أن يتمكن أحدنا من سماع الآخر، غادرنا المكان.. وظلّت جملته تتردّد في رأسي، "أريد بنطال جينز".

محمد الذي اعتاد أن يهاتف والدتي عادة، يطلب منْها أن تشتري له بنطال جينز "فاتح" في غالب الوقت، يقيسه في المنزل، لا يعجبه، يعيدنا مرّات عدّة إلى المحلّ لاستبداله، يرفض أن يذهب إلى المتجر بنفسه، ومرّات أخرى يعيدنا لتقصيره أو تخصيره عند الخياط.. والآن دون أن يعطينا صفة واحدة له، ربما لأنه بات مُدركا استحالة أن يعيده معنا لاستبداله، يطلب بنطال جينز فقط ليرتديه في العيد.. أما أنا فسألت نفسي مراراً بعدها، هل يشعرُ الأسرى حقّاً بطعم العيد لو ارتدوا بنطالاً جديداً دون أن يخرجوا منْه لبناتهم، أمّهاتهم، زوجاتهم أو شقيقاتهم- العيدية التي ينتظرنها؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.