شعار قسم مدونات

الفلسفة العميقة لموسيقى ياني كريسماليس

blogs- ياني
كنت في حوالي الرابعة عشرة من عمري حين سمعتُ ولأول مرة مقطوعةً موسيقية لــ ياني، ولم تكن مقطوعة كاملة حتى، بل كانت خلفية موسيقية في أحد الفيديوهات التحفيزية. تعلقي بهذا الجزء من هذه الموسيقى الساحرة جعلني في دوامة بحث عن القطعة الكاملة، ولم أتعرف على ااسم هذه المقطوعة ولا على اسم صاحبها إلا بعد أشهر عديدة حين تعرف عليها صديق لي وأخبرني باسمها لتكون أول قطعة تجعلني أتهادى في موسيقى من نوع خاص لفنان يدعى ياني تحمل عنوان Almost whisper!
 
ما زلتُ أكرر أني أجد وبكل بساطة أن موسيقى الفنان ياني عبارة عن دوامة عميقة من الضياع، فلا يمكن لشخص أن يتعرف على موسيقاه دون أن يُصاب بدوار العشق من خلالها. هو في الحقيقة حالة استثنائية بحتة، رغم أن هذا الإقرار قد سبق إليه العديد ممن عرفه قبلي إلا أن تأثيره على العالم لا يزال بذات القوة. فإن كانت قوة تدفق الماء تتناقص كلما زادت المسافة عن المنبع، فإن قوة موسيقى ياني تحمل في صميمها قوة العلاقة الطردية، بحيث كلما زاد قِدمها زاد تأثيرها على الناس. هذا المبدع الذي يُقر التاريخ بتمرده على قوانين العزف، حيث أنه لا يقرأ النوتة الموسيقية اِطلاقا تمكن من تأليف أعمال عظيمة سيكون من الصعب على التاريخ أن يتخلص منها مهما طال الأمد.

الحب النقي الذي يشعر به الإنسان عندما يكون عاشقا لأحد ما فيبوح في سره "لو كان بإمكاني إخبارك؟" فيطرح هذه التساؤلات، لماذا كل هذا الكتمان؟.

والجانب الآخر من ياني والذي قد يظهر جليا من خلال حفلاته ومقابلاته التليفزيونية هو جانب ياني الإنسان. فقد حصل أن اعترف على الملأ في حفلته الضخمة والتي أُقيمت في الهند – الصينية سنة 1996 أنه لا يعتبرُ نفسه يوناني الأصل ولا يعتبر نفسه أمريكيًا في المقابل، رغم أن اليونان هي من أنجبته والولايات المتحدة الأمريكية هي من قامت باحتوائه في أولى سنوات حياته، بل يرى نفسه اِنسانًا وفقط متجاوزا بذلك كل العقبات والمفارقات وموضوع الهويات. وهذه هي الرسالة التي يحاول ياني بعثها من خلال موسيقاه المميزة: "لا حدود ولا أساور" هذا الشعار الذي اعتنقه خلال ذات الحفلة التي أقيمت في الهند – الصينية. ويؤمن ياني كونَ الموسيقى لغةً صريحةً بشكل لا يصدق، حيث أنها تتضمن النمط والمنطق وتسمح للناس بأن تخاطب نفسها بشكل مباشر.

وكما قد أقر مسبقا أيضا أنه على يقين أن الموسيقى لن تجعل العالم يتغير لكنها ستكون في المقابل من الحقائق التي تجعل العالم يتغير، فانتصاره يكمن في اللحظة التي تبعث موسيقاه فيها الروح من جديد لإنسان محطم أو على حافة الانهيار.

لم يحصل أن تحدث ياني قط عن أسرار الموسيقى التي يؤلفها، إلا أنه ومؤخرا تغاضى عن هذا وفي مبادرة عميقة منه استطاع أن يبوح ببعض الأسرار عن بعض القطع الموسيقية التي ألفها وكان لها الحظ الكبير من حيث وصولها إلى المستمعين. لو كان بإمكاني إخبارك أو (If I could tell you) بالإنجليزية، تحدث ياني عن هذه الموسيقى خلال جولته التي أقامها منتصف الشهر الرابع من هذه السنة 2017 حيث قال إن بدايتها تتحدث عن الحب، ذلك الحب النقي الذي يشعر به الإنسان عندما يكون عاشقا لأحد ما فيبوح في سره "لو كان بإمكاني إخبارك؟" فيطرح هذه التساؤلات، لماذا كل هذا الكتمان؟ إن لم يكن الحب شيء محرما فما الذي يجعل الاعتراف به صعبا إلى هذا الحد؟

استطاع ياني أن يوصل رسالته إلى ربوع هذه المعمورة وكان سببا في احتواء الكثير من التطرف والكثير من السواد الذي يلف هذا العالم. استطاع أن يكسر الكثير من الحدود.

كما أنه تحدث عن القطعة الموسيقية الأقرب إلى قلبه والتي تحمل عنوان (Felitsa) فليتسا وهو اسم والدته، التي لطالما ذكرها ياني، ولم تكن هناك حفلة إلا وقام بعزف هذه المقطوعة لها. فهو يعترف أن والدته لم تمنحه الحب فقط بل دفعته إلى السعي وراء أحلامه والاستمرار في تعقبها وتحقيقها.

إن الفلسفة التي تبطنها موسيقى ياني فلسفة عميقة، تشمل جميع جوانب الحياة الماضية والمعاصرة، استطاع بموسيقى حية أن يعبر عن كثير من المواضيع ربما حتى الكلمات لم تجد بدا إلا أن تقف حائرة أمامها، هذه الموسيقى التي ألغت كل المسافات ووحدت الشعوب رغم كل الاختلافات، فاللغة مهما تطورت تبقى محدودة أمام التعبير عن المشاعر، فلغة الموسيقى ليست ببعيدة عن لغة المشاعر وهي فقط من بإمكانها التطرق إليها.

لقد استطاع ياني أن يوصل رسالته إلى ربوع هذه المعمورة وكان سببا في احتواء الكثير من التطرف والكثير من السواد الذي يلف هذا العالم. استطاع أن يكسر الكثير من الحدود، وإلى الآن ما زال يمنح هذا العالم الكثير من الحب والسلام من خلال موسيقاه التي كانت مليئة بمشاعر الحب والإيخاء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.