شعار قسم مدونات

هل أنت قادر على إغلاق حسابك في "فيسبوك"؟

blogs - facebook
حتى الآن لا أعلم هل رنَ منبهي ذلك اليوم أم لا؟ لكنني أتذكر جيدا فراري من سريري بعد الفجر، وخروجي مسرعًا وأنا ألملم كتبي وأوراقي. فالجو كان قارصًا وتمطر بشدة، لكنني بقيت أجري بأقصى سرعة، إلى أن وصلت إلى موقف الحافلات، ودون انتظار فوجئت بقدوم حافلتي لحظة التقاطي لأول نفس للاستراحة. فور جلوسي داخل الحافلة أخرجت واحد من كتبي الثلاثة، لم أتمكن من إتمام قرائته خلال الثلاثة أسابيع الماضية، وكلي أمل أن أحصل على فكرة سريعة عما فيه قبل وصولي إلى حلقة الدرس مع الأحباب؛ لتجنب المثول أمامهم في مظهر سيء ونحن نناقشه.
 
نحن 6 شباب، أكاديمي ومحرر صحفي ومُعلم ومحاسب وإداري ومترجم، نتجمع صباحا مرة كل ثلاثة أسابيع في بيت أحدنا؛ لمناقشة ثلاثة كتب متنوعة تتغير باستمرار، نناقشها، وندرس كاتبها، ويسمع كل منا رأي الآخر ونخرج بعِبر ودروس كثيرة؛ أملاً في هدم جزءا من أصنام الجهل داخلنا. لكن هذه المرة كانت مختلفة، ودون أدنى ترتيب من أحدنا كنت أمسك بهاتفي في يدي ووجدت أحدهم يدندن شِعرا على الأريكة أمامي، استغربت الصوت القادم وقلت له:

راحت تتضاعف أوقات البحث والتفكر والدراسة واهتمامي بعملي والقراءة وتدبر العلوم وأولها معرفة ربي ونفسي، وراحت ساعات حديثي مع زوجتي تتضاعف، وأوقات لقائي بزملائي تكثُر.

على ما أظن أنت جائع جدا وتسعى إلى إلهاء معدتك بالشِعر، لم يرد عليَ، وقال ماذا أنت تفعل؟ قلت أتصفح بعض الأشياء في "فيسبوك"، همهم قليلا دون أن يخرج شيئا من بين شفتيه. قلت: ألا تستخدم فيسبوك؟ قال: منذ فترة طويلة لا أستخدمه. استغربت كثيرًا وكأنه فعل أمرا غريبا من الصعب فعله، قلت: أنت صحفي وعليك أن تتابع الأخبار وما ينشر في وسائل الإعلام العالمية، لكنه رد قائلا: ما تقول ليس مبررا لاستخدام الفيسبوك، وأضاف: أشعر براحة كبيرة منذ قطع علاقتي بسائر مواقع التواصل الاجتماعي، وسكت.

تركت الهاتف حينها وسرحت في نفسي البشرية وراودتني قراءات كثيرة عن السوشيال ميديا والرأسمالية والإعلام، وأخرى تأثرت بها عن علوم الأنثروبولوجيا وعلوم النفس والاجتماع فضلا عن القرآن الكريم وأحاديثي مع زوجتي، وفي وهلة سريعة حسبت كم الوقت الذي أنفقته في تصفح الفيسبوك حتى يومي هذا؟ صُعقت حين فعلت ذلك، على الرغم من استخدامي الجدي والمتواضع للسوشيال ميديا. بالفعل صُعقت بشدة عند شعوري بكم الظلم الذي أظلمه لنفسي يوميا، وكدت أبكي.

لا أبالغ في سرد كل ذلك، وأعرف أن من بيننا من يقول أن للفيسبوك فوائد عديدة، يوفر قناة اتصال بكثير ممن نحبهم ونستفاد منهم سواء كنا نعرفهم في الواقع أوعن طريق منشوراتهم. وثمة آخرين يدَعون أنهم يؤسسون أعمالا وعلاقات قوية عبره. تجربتي تقول أننا نخدع أنفسنا دون وعي، وأحيانا نشعر بوابل ما نفعل، لكن في الغالب نتجاهل تلك المشاعر. وبنظرة عميقة واحدة بإمكاننا أن نرى أن الفيسبوك مجرد مجموعة من الأمور المصطنعة وتخلو من أي حقيقة.

فمثلا من يدَعون عشقهم لزوجاتهم من خلال منشورات مليئة بالصور الخاصة وصور القلوب وما شاكله، تشير احصائيات عديدة إلى ضعف علاقاتهم بأزواجهم، وما يفعلونه مجرد بحث عمَا يفتقدونه. صلة أرحامنا وعلاقات الود والصداقة تُدمَر شيئا فشيئا، فنرى يوميا أصدقاءنا وأخواننا يكتبون وينشرون صورا، فنطمئن عليهم، ولا نشعر بالحاجة إلى السؤال عنهم. فلنسأل أنفسنا أين الزيارات الدورية القديمة للأهل والأصحاب؟ وما مصير الاتصالات الهاتفية داخل العائلات؟ لا أزعم أنها انتهت لكن لا أحد ينكر أنها قلت وانحصرت على المناسبات بسبب السوشيال ميديا. ناهيك عن عدم مفارقتنا لهواتفنا في اللقاءات والاجتماعات الأسرية.

أمَا كافة العلوم والبيانات والحكم التي نقرأها ونتعلمها عبر السوشيال ميديا، فأغلبها سرعان ما ينمحي ولا يبقى أي أثر لها في عقولنا. والسبب: هو أنها وصلتنا بكل وضوح دون جهد يُذكر، ولم نكن عازمين أصلا على البحث عنها؛ كي تبقى في عقولنا وتؤثر في حياتنا، وعلى أقصى تقدير تُحفظ كمجرد منشورات داخل خزانة هواتفنا و حواسيبنا، ومهما بلغ تأثرنا بها فسرعان ما يندثر مع الوقت.

ومعظم من نعرفهم عبر الفيسبوك، لا تربطنا بهم علاقات قوية، إلا إذا تطور الأمر إلى مرحلة الحياة العادية، وخرجنا معهم من بئر أو قوقعة الفيسبوك، فهم مثلنا تماما يعانون من فراغ وسلبية تجاه عقولهم وأنفسهم ويستخدمون السوشيال ميديا كمخدر لإخراجهم من هذه الحالة. فكيف سيقدمون لنا شيئا، أو سنقدم لهم! نادوني فقد انتهوا من إعداد الفطور، لكن قبل أن أخطُ خطوة واحدة نحو مائدة الطعام كنت ألغيت تفعيل كل حساباتي في مواقع التواصل الاجتماعي، وعزمت أن تتغير حياتي بعد هذا الفطور. كالعادة كان درسا رائعا، وانتهى كما ينتهي كل شئ، ورحلنا لاستكمال حياتنا، وشرعت أجهز نفسي للدرس المقبل.

كان طريق عودتي طويلا جدا ورحت أفكر في ما فعلته وقراري الذي اتخذته، وراودتني أفكار جعلتني أخشى أن أعود عن قراري، وكرهت أن أضعف؛ لاسيما وأنا أمتلك علاقات كثيرة في فيسبوك، وارتباط عملي به، إلى جانب غربتي وبعدي عن أهلي وكثير ممن أحبهم، لكنني عزمت واستحضرت النية وطلبت من الله التوفيق.

كافة العلوم والبيانات والحكم التي نقرأها ونتعلمها عبر السوشيال ميديا، فأغلبها سرعان ما ينمحي ولا يبقى أي أثر لها في عقولنا. والسبب: هو أنها وصلتنا بكل وضوح دون جهد يُذكر.

لعل تراودكم آلان حالة من الفضول عن معرفة النهاية، ودون إطالة كانت النتيجة أكثر من مدهشة. الحمدلله.. على الرغم من أن يداي كانتا تتحركان بشكل لاإرادي باستمرار إلى الهاتف؛ للبحث عن تطبيقات التواصل الاجتماعي إلا أنه بعد كل محاولة كانتا تعودان بخف حنين، فالتطبيقات لم تعد موجودة أصلا على الهاتف. ومر يوم تلو الآخر وأنا أواصل المقاومة، وغدوت أفوق شيئا فشيئا من غشيتي وأشعر بما قاله لي صديقي قبل تناول ذلك الفطور المبارك.

أحمد ربي.. راحت تتضاعف أوقات البحث والتفكر والدراسة واهتمامي بعملي والقراءة وتدبر العلوم وأولها معرفة ربي ونفسي، وراحت ساعات حديثي مع زوجتي تتضاعف، وأوقات لقائي بزملائي تكثُر. لدرجة أنني غدوت أشفق على كافة من حولي من الغارقين في هذه اللعبة، وكل ما أتمناه أن يشعروا بلذة يومي الكبيرة حاليا.

آلان أعمل وأقرأ وأشارك في دورات تدريبية ومؤتمرات علمية وجلسات فكرية، وأتعلم لغة جديدة، وأنام وقت كاف، وأستيقظ وأنا مطمئن. ولم تنقطع علاقاتي بالعالم بل تطورت إلى الأفضل ورحت أشتاق لأصدقائي وأخواني، فلم أعد أراهم على الفيسبوك كالعادة. أعلم أن الموضوع متشعب، وملئ بكثير وكثير من النقاط القابلة للأخذ والعطاء.. لكن تبقى هذه السطور مجرد كلمات من أخ لإخوانه، وأسأل ربي التوفيق لي ولكم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.