شعار قسم مدونات

الإيمان سعادة الإنسان

مدونات - مسلم

مازال الانسان وإلى اليوم يبحث عن السعادة فلا يجدها، ولازال السؤال يجد في نفسه القدرة على بعث الحيرة والكآبة والحزن في أغوار هذه الذات الإنسانية. نخرا لأمانيها الباقية وكسرا لأوهامها الكاذبة، ودفعا لها على تلبية نشيد السعادة الذي لا ينفك عن طلب الإنسان. أين تسكن السعادة؟ متى تظهر؟ هل من سبيل لملاقاتها؟ وهل يمكن اقتناءها؟ وكم ثمنها؟ كثيرا ما تتردد هذه الأسئلة على الأسماع ويكثر تناولها بين الناس، بل صار الحديث حولها مشاع، لا سيما في هذه الآونة الحضارية التي سمتها الإشباع بين كل الفئات الاجتماعية وفي شتى البقاع.

ولعل ذلك مرده إلى الظن بأن السعادة أنثى يدبر لمواقعتها فيسأل عن المكان والزمان، أو مشترى يجمع له المال ويسأل عن السوق والأثمان. إنه لمن المؤسف حقا، أن ترى المادة تستغرق الأذهان، وتعبث كما تشاء بالإنسان بل تصيره إلى قطيع يتملكه الألم والهوان، فيهلك في أسفل مستنقعها مهان إذ لا معنى هناك ينقذه، ولا فكر يسعفه وينتشله من الأوهام.
 

كلما حذى الإنسان حذو اللذة الحسية تاركا ومتغافلا عن اللذة المعنوية كان أقرب ما يكون من المنزلة الحيوانية، فإن هذا النوع من اللذة يشترك في تحصيلها الحيوان والإنسان.

لا ريب أن الإنسان ذو طابع مادي إذ لا يمكنه التغافل تماما عن هذا الجانب الحياتي بل ينبغي عليه التحرك للحفاظ على طابعه، غير أن هذا الانكباب الفاضح والعكوف الواضح على مائدة المادة ما يشد الانتباه، ويأبى عندي إلا أن يبقى دون مبرر. هل أن ما فيَ من مادة يحملني على الإقبال عليها بكل نهم وشغف وولع أم أنه يحملني إلى التعرف على الذات فأسموا وأسعد وأرتفع؟
 

لقد آن للإنسان أن يقبل على نفسه تأملا وتمثلا، بل يجب عليه الغوص في أعماقها عسى أن يخرج ما ترسب بل وما سكن فيها من الأوحال والأحوال المرضية المنتشرة في المجتمع. فليسأل الإنسان نفسه من أكون؟ ومما أتكون؟ فقد تسمع ذاته شكواه فيظفر بالتعرف عليها ويفهمها، وبذلك يعرف علة وجوده الأولى أقصد الله تبارك وتعالى واجب الوجود، الذي قال في محكم تنزيله: "سنريهم آياتنا في الآفاق و في أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق".
 

ولذلك اعتبر ابو حامد الغزالي أن" معرفة النفس هو مفتاح معرفة الله تعالى" ومن ثمة يتصل حبل الإنسان بالله، إذ ينعم بالقرب من خالقه وموجده في هذا الوجود، "ألا بذكر الله تطمئن القلوب". ويُشبع أخيرا هذا الإنسان المتعطش للحقيقة جوعته، ويملئ فضاءه الداخلي الروحاني، لأنه حقا لا يمكن أن يشبعه شيء لا جاه ولا مال ولا كل السلطات ولا الشهوات فالله خلقه، ولا يشبعه سواه تبارك وتعالى الذي يقول "وأن إلى ربك المنتهى".
 

تعد حاجة الإنسان إلى السعادة حاجة ماسة وضرورية، ذلك أنه هو العنصر الوحيد الذي كرمه الله تعالى بملكة الشعور والعقل، "ولقد كرمنا بني آدم". ولما كان الإنسان ظاهرا وباطنا، جسدا ونفسا، كانت السعادة أو اللذة على ضربين لذة حسية تصحب الجانب الحسي الجسدي، وأخرى معنوية تقترن بالجانب المعنوي الروحاني لهذا الإنسان.
 

فكلما حذى الإنسان حذو اللذة الحسية تاركا ومتغافلا عن اللذة المعنوية كان أقرب ما يكون من المنزلة الحيوانية، فإن هذا النوع من اللذة يشترك في تحصيلها الحيوان والإنسان، بل أبعد من هذا فأن كلا الصنفين أصبحا يجتمعان في تحقيقها، فقد صار مألوفا إتيان البهائم اليوم، ويا للغرابة، وكلما كان الإنسان بين يدي اللذة المعنوية كلما كان أقرب من الملائكية السامية.
 

هكذا يكون الإنسان بين اللذة الحسية واللذة المعنوية يتدنى بالحس ويعلوا بالمعنى، وكأن في اختصاص الله الإنسان دون غيره باللذة المعنوية، تنبيه وإشارة لهذا الإنسان بأن سعادتك الحقيقية مرتبطة أساسا بما تناله من فيض المعنى، لأن هذه اللذة جاءت للإنسان من حيث هو إنسان بملكاته المختلفة والبعيدة كل البعد عن الحيوان، فليكن الإنسان إنسانا ولا يرضى بأن يتشبه بالحيوان، فقد ميزه الله تعالى بالعقل أيما تمييز. وإلا "فضلت عليه البهائم يوم القيامة لأنها تصير إلى التراب و يبقى هو في العذاب" على حد تعبير الغزالي.
 

ينبغي أن تنفق الأعمار في سبيل التحقق بهذه السكينة والراحة الواسعة، والصافية من شوب الأكدار والحياة في حضرة الواحد القهار، والتزهد في هذه الدار تزودا لدخول تلك الدار، وأملا في رؤية المليك الجبار.

تعجز الألفاظ أحيانا عن الإيفاء بحق المعاني، إذ ليس للكلمات من سبيل للوصول إلى صفة اللذة المعنوية غير أن هذا لا يلغي بعض المحاولات الجادة في هذا المجال، ولعل أكثرها جدية تحسب للروائي الشهير نجيب محفوظ بعنوان الشحاذ. والتي يروي فيها مأساة شحاذ لا يشحذ مالا ولا جاها ولا لذتا، بقدر ما يبحث عن معنى الحياة وعن سر الوجود إلى أن انتهى به البحث وحيدا على طريق صحراوي قبيل الفجر بدقائق قليلة ليعثر على النشوة الحقيقية المنشودة.
 

فبقول الكاتب: "وفجأة رقص القلب بفرحة ثملة، واجتاح السرور مخاوفه وأحزانه.. وارتفع رأسه بقوة تبشر بأنه لن ينثني، وشملته سعادة غامرة جنونية آسرة وطرب، وكل جارحة رنمت، وكل حاسة سكرت، واندفنت الشكوك والمخاوف والمتاعب، وأظله يقين عجيب ذو ثقل يقطر منه السلام والطمأنينة، وملأته ثقة لا عهد له بها وعدته بتحقيق أي شيء يريد، ولكنه ارتفع فوق أي رغبة وترامت الدنيا تحت قدميه حفنة من تراب".

هذه هي السعادة التي شرف الإنسان باستشعارها وتحصيلها وهي التي سعى الساعون سعيا دائما وأبدا لبلوغها إنها اليقين بلا جدل ولا منطق ألا يستحق أن ينبذ كل شيء من أجل هذا المقام؟ بلا، ينبغي أن تنفق الأعمار في سبيل التحقق بهذه السكينة والراحة الواسعة، والصافية من شوب الأكدار والحياة في حضرة الواحد القهار، والتزهد في هذه الدار تزودا لدخول تلك الدار، وأملا في رؤية المليك الجبار بصحبة نبينا صلى الله عليه وسلم سيد الأخيار.

ورحم الله رابعة عندما قالت:

فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكلَ هين وكل الذي فوق التراب تراب

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.