شعار قسم مدونات

النّص الأدبي وسؤال ما بعد الثّقافي

blogs - مكتبة
يحيلنا الأدب في مفهومه الكونيّ على ترجمة فنيّة لواقع الشّعوب وعلى اختلاف مدارسه ومناهجه، لا يزال مدوّنة فنّية متطوّرة تعالج الهواجس الإنسانيّة وتناقش الأبعاد الثّقافيّة للحضارات. وعن استمراريّة النصّ الأدبي كحلّ كلاسيكي لنبش الواقع واستنطاق مخيّلة الكتّاب، يتوجّب علينا التوقّف عند سؤالين بديهيّين حول جدوى الأدب من منظور ثقافيّ، هل سيحافظ الأدب على مكانته كمرآة نرى من خلالها خبايا المجتمعات ومعضلاتها؟ وهل سنشهد اضمحلالا للنصّ الأدبي في ظلّ دفق ثقافيّ متطوّر ومتغيّر؟ 
 
إنّ تنوّع الأجناس والمدارس الأدبيّة دليل ثابت على شموليّة الكتابات، فقد أمكن للقارئ الاطّلاع على أدب الرّحلات وأدب السّجون وأدب السّيرة الذّاتيّة والملاحم والخيال والرّعب وتعمّق في تحليل الرّوايات والكتابات القصصيّة والشّعر الكلاسيكي والحديث، ونخلص إلى أنّ المدوّنة الأدبيّة العالميّة هي احتمالات متاحة للبحث عن ذات القارئ الإنسانيّة فيها وبالتّالي تمسّكه بفعل القراءة كاستمراريّة حتميّة من أجل الوصول إلى المعنى الأشمل والحلّ الأمثل لسؤال الوجود الثّقافي.

في هذا الصّدد، يقول كاتب الفانتازيا والخيال العلمي البريطاني نيل جايمان "تعدّ الكتب طريقًا للتواصل مع من سلف وللتعلّم منهم كيفيّة تشييد إنسانية ذات معرفة خلاقة لا تكرّر نفسها. وقد ساهمت بعض الحكايات في تطوير البلدان التي نشأت منها، وعمران الثقافات التي أنتجتها، وما زالت خالدة وتتداول حتى اليوم".

وسط هذا الكمّ الهائل من المادّة الثّقافيّة الرّقمية، يقبع النّص الأدبي فنّا يتأرجح بين كلاسيكيّات فنّية وثقافة متجدّدة، مدافعا عن رونقه، باحثا عن صيغته الجديدة اللاّنهائيّة، مقتفيا أثر القارئ المتعجّل دائما لثقافة متغيّرة.

فتبعيّة القارئ للنصّ الأدبيّ إذن يجب أن تكون دائمة وتواصليّة، حتّى لا يفقد النّص انسيابه في المشهد الثّقافي ويتبخّر تدريجيّا، كأن تنبّه رواية قارئا وتهمس له "أنت في الحكاية ، جد ذاتك"، وهنا يكمن التأثير المعنويّ للنصّ على القارئ وبالتّالي ترسيخ للبعد الإنساني المنتظر من الأدب وإبراز دوره الأساسي في ثراء الثّقافات وتنوّعها.

فكيف سيحافظ النّص الأدبيّ على كينونته الثّقافية في ظلّ تغيّرات جذريّة للمشهد الثّقافي العالمي؟ اكتسحت التّقنيات الرّقمية المشهد الثّقافي وأصبح من اليسير الولوج إلى منصّات افتراضيّة فنّية وتصفّح المنتوج الثّقافي في بعد رقمي، وعلى سبيل المثال، أصبحت المنتديات والملتقيات الأدبيّة متاحة على الشبكة العنكبوتية بصورة تفاعليّة كما أنّ العديد من المواقع تقدّم تقييمات لقراء من مختلف أنحاء العالم بشكل يتيح لهم نقد النصّ الأدبي في حلقات مباشرة نقاشا وتقييما. ناهيك عن دور شبكات التواصل الاجتماعي في تعميم المادّة الأدبيّة. بيد أنّ الثورة الرّقمية للثقافة أفسحت المجال لانطلاقة حقيقيّة لأنواع جديدة ومبتكرة من الفنون كالفنون التّشكيليّة الرّقمية والتّصميم الافتراضي والموسيقى الرّقميّة.

ووسط هذا الكمّ الهائل من المادّة الثّقافيّة الرّقمية، يقبع النّص الأدبي فنّا يتأرجح بين كلاسيكيّات فنّية وثقافة متجدّدة، مدافعا عن رونقه، باحثا عن صيغته الجديدة اللاّنهائيّة، مقتفيا أثر القارئ المتعجّل دائما لثقافة متغيّرة. فهل ستتغوّل الفنون الرّقمية على النّص الأدبي كفنّ وثقافة كان ولا يزال الواصف الأمثل لحال الشّعوب والحكواتيّ المتبصّر بأمر الأمصار والأسفار والموثّق للتاّريخ على اختلاف مراحله.

وفي طريق بحثه عن صيغته الفنّية المتغيّرة والمتطوّرة، يبقى النصّ الأدبي كطرح فنّي عصيّا على الاضمحلال، منيعا على التبخّر، جاثما على السّاحة الثّقافيّة بزخمه المعرفيّ والفنّي فلا يتزعزع، سخيّا على القراء الأوفياء طالما كان بعده الكونيّ يكتنف البشريّة بشغف وحرص.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.