شعار قسم مدونات

العبادات.. الماراثون الرقمي

blogs مارثون العبادات

أتاحت نوافذ التواصل الكثيرة لشريحة واسعة من الناس التنافس في المظاهر أكثر، وللانكشاف على المجتمع بشكل أكبر، وليس الأمر دخولًا في نيات قلبية لكنها أحوال تُخبر عن كينونتها دون وصف، يكتفي معها الناس بصورة أو فيديو، في أحوال مختلفة من صلاة، وصدقة، وعمرة، وحج، ومبادرات تطوعية، حتى في لحظات المرض، تفهم منها رسالة صاحبها؛ ها أنذا، ها قد فعلت، …إلخ، بعد زمان من الستر واعتبار هذه الأعمال سرًا خاصًا بين العبد وربه، وتحت مبررات منها ليتعلم الآخرون فعل الخير!

هذا الانكشاف من حالة السر إلى العلن، ومن حالة الإتقان إلى الحرص على السرعة والكم، لم يرتبط تحديدًا بمواقع التواصل الاجتماعي فقط، بل سبق ذلك موجة التنمية البشرية، تعلم كيف تقرأ بسرعة؛ ليس لتفهم ولا لتحفظ بل لتأخذ فكرة، ولتقطع عددًا كبيرًا من الكتب أو الروايات، احرص على ختم القرآن أربع مرات أو ست مرات، اذكرِ الله ألفًا أو ألفين، دوامة الكمّ التي يُقاس في ضوئها إنجازك، أما حجم الفائدة المرجوة فهي آخر الاهتمامات، فماذا يعني أن تذكر الله ألفًا وقلبك لاهٍ؟ وماذا يعني أن تقرأ القرآن هذرًا لا تعقل منه ولا يستقر منه في فؤادك شيء؟ 
 

إذا كان مقياس الانتفاع من العبادة أو العمل يتجلى بعد الانتهاء منها؛ فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والذكر يزيد في طمأنينة القلب، والقراءة الواعية تزيد من فهم الإنسان للأشياء من حوله

لكن، يفاجئك مَن يزعم ألا مشكلة في حضور القلب، ولا مشكلة في فهم ما تقول وتردد، المهم أن تحرص على الأجر، الأجر الذي لا يضمنه المسلم، هكذا تُصنع عجلة السرعة، ويدخل المرء في دوامة الاستعجال، ليشارك في سباق عريض، كثر فيه المتنافسون طواعية أو قسرًا، ونصبوا لأنفسهم عدّادًا هم مراقبوه، ورضوا بسعادة مؤقتة، تصفيقًا لرقم، وتشجيعًا عليه، فبات الجميع أسرى الأرقام، سواء كان في قراءة الكتب غثها وسمينها، أو في قضايا وطنية كبيرة أو في العبادات التي جُردت من الروح وتحولت إلى كمٍ يتناسب مع طبيعة ثقافة المشاركين في هذا الماراثون الرقمي الكبير. 

إذا كان مقياس الانتفاع من العبادة أو العمل يتجلى بعد الانتهاء منها؛ فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والذكر يزيد في طمأنينة القلب، والقراءة الواعية تزيد من فهم الإنسان للأشياء من حوله، وتدفعه للتواضع أكثر، وللبحث في كل شيء، فإن كانت هذه النتائج غير متحققة؛ فالمشكلة في طريقة الأداء، فكيف انتفع السابقون، وسعدوا في حياتهم، وأنجزوا ما وجدوا أنفسهم فيه؟ 

ببساطة لم يسمحوا للأرقام أن تأسرهم، كانت الأفكار وسائر الأعمال عالم تأمل فسيح يطيلون فيه النظر، فيرجعون أصفى مما كانوا عليه، فإذا قلبوا كتابًا؛ كان تقليب إعمال فكر ونظر، وإن أقبلوا على القرآن؛ كان إقبال تلقٍ وفهم وعمل، وإن ذكروا الله؛ كانت سياحة لأرواحهم، ليس مهمًا كم مرة فعلوا، بل كم أزال هذا من همٍ، ورفع من همة.

كم مرة ختمت؟ كم كتابًا قرأت؟ كم مرة ذكرت الله على خاتم التسبيح؟! وكم مؤتمر شهدت؟ وكم شخص يتابعك؟ وكم وكم وكم، هذه الأرقام تأسر الروح عن الانعتاق، وتحجب عنها السعادة، والخير، بدعوى الأجر، في حالة من فصل الأثر الحقيقي الراسخ في أعماق الإنسان عن البهجة المؤقتة التي ما إن يزول مفعولها حتى تبدأ جولة سباق رقمي آخر، في دوامة لا تنتهي، ينسى معها الإنسان أنه إن لم تنتفع روحه، إن لم تحلق، إن لم تسعد، إن لم تطمئن، فهناك خلل في طريقة أدائه أو في علاقته مع الأشياء من حوله.
 

اعقد التسبيح بيمينك، لست في حاجة أن يرى الناس خاتمك، اذكر الله خاليًا، اقرأ ما شئت وابحث، لست ملزمًا بسباق، ففي نهاية المضمار لن تُمنح شهادة

إننا نمنح أنفسنا أفقًا حرًا جديدًا إن تخلينا عن هذه القيود، إن تخلينا عن المشاركة في السباقات الكمية، وبدأنا نبحث عن الانتفاع، عن المعاني، عن حضور القلب، ونمنح أنفسنا فضاء أوسع حين نعود للإسرار في الأعمال المختلفة كالعبادات بأنواعها من صلاة وصدقة وذكر …إلخ، وكلما تخلينا عن المظاهر؛ صفت لنا الأعمال.

اعقد التسبيح بيمينك، لست في حاجة أن يرى الناس خاتمك، اذكر الله خاليًا، اقرأ ما شئت وابحث، لست ملزمًا بسباق، ففي نهاية المضمار لن تُمنح شهادة، حياتك مسؤوليتك، ويمكنك أن تسبح عكس التيار، وأن تختار أن تكون ما ترى أنه يحقق لك الاستقرار النفسي، ويوصلك إليه، فقط تحرر وفكر واختر ما يناسبك أنت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.