شعار قسم مدونات

رَبّانيون لا رَمضانيّون

blogs رمضان

طُرِحَ سؤالٌ على أحد المُحاضرين ذاتَ مرّة ممن يملكون الفَهم وأوتوا من العلم خيراً كثيراً وآتاهم ما لم يُؤتى كثيراً منهم وفَضلهم -بعلمهم- على كثيراً ممن خلق تفضيلاً، أيُهما أفضل ختمة القرآن في رمضان أم في الشهور بعده؟ لا شكّ أن غالبيتنا سيُباشر قائلاً: بل في رمضان، شهرٌ أنزل الله فيه القرآن وفيه تتضاعف الأجور وفيه وفيه، لكنّ المُحاضِر وَقفَ بُرهةً ثمّ قال: ختمة القرآن في رمضان أعظم نعم لأنه الشهر الذي أُنزِلَ فيه، وختمته في الشهور بعده أعظم وأعظم لأنّ الناس تَهجرُهُ ولا تأتيه.. لنكن رَبّانيون لا رَمضانيّون. 

هل حقّاً شهرُ رمضان للتزوّد؟
قال الله "وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا"  مَنبوذون في العَراء نحنُ منذُ زمن؛ لولا ألطافُ ربّنا وتَدارُكنا لِنعمه، مُلقَون في غَياباتّ الجبّ لولا رحمتهُ بنا وإرساله جُنودٌ من جنوده لِتُقلّنا على شاكلة سيارة، أدلى دَلوهُ واردهم وقال يا بُشرى، غارقون في الأوحال لولا سُفُنُ ربّنا، كلّنا مُقصّرون لا مَحالة.

ولكن هل نستطيع أن نُوفي الله حقّه ولو مِعشاراً واحداً؟ جاء في الحديث، أنّ الله قال للملائكة أدخلوا فُلان بن فُلان الجنّة برحمتي، فقال ابن آدم: يا رب أُريد أن أَدخُلَ الجنّة بأعمالي، فقال الله للملائكة: زِنوا لِعبدي أعماله التي عَمِلَها في الدنيا وضَعوها لهُ في كفّة، ثمّ يأتي الله سبحانه بِنعمةٍ واحدة نِعمةَ البصر ويَضعها في الكفّة الأُخرى من ميزان الله، الميزان الذي يُقامُ فيه الوزنُ بالقسطِ ولا تُظلمُ نفسٌ شيئاً ولو كانت حبّةً من خَردل، فترجح نعمةَ البصر بأعماله كلّها التي عملها، فما عادت أعماله تُسمنُه أو تُغنيه من شيء، فيُخبت ابن آدم ويقول: يا رب أسألُكَ رَحمتك.

"النّية تجارة العلماء" تَحتَ هذهِ المقولة جَسّد سفيانَ الثوريّ -رَحمه الله- مقولته في باب النية فقال واصفاً العلاقة بين النيّة والعمل" وَددتُ لو أنّ الناس تَعلّمت النّية كما تَعلّمت النّاس العمل

في الحقيقة نحنُ في خُسرانٍ دائم "إنّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ" ،ما رَمضان إلّا سَدُّ ثَغراتٍ وليس للتزوّد، وما هو إلّا مُحاولةُ تَعويض هذا الخُسران وهذا النّقص، ومُحاولة في أنّ نُوفِّ الله حقّه والذي لن يُوفّى، ونَفحة من نَفحاتِ الله، كما قال ﷺ: "ألا إنّ في أيّام دَهركم نَفحات فتعرّضوا لها"، التَزوّد يَدلُّ على ما فوق الاستيفاء، أمّا سَدّ الثغرات فيكون بحياكة عدّة ثقوب جَرّاء ما كسبتُه أيدينا، وما رَمضان سِوى مرحلة لمُحاولةِ التّعويض ورَتْقِ المَفتوقِ منّا وفينا..

"النّية تجارة العلماء" تَحتَ هذهِ المقولة جَسّد سفيانَ الثوريّ -رَحمه الله- مقولته في باب النية فقال واصفاً العلاقة بين النيّة والعمل" وَددتُ لو أنّ الناس تَعلّمت النّية كما تَعلّمت النّاس العمل، وعقّبَ علي أبو الحسن على كلامه فقال: "من دَوالِّ مَحبّتنا لله كمسلمين أن نكونَ من أرفعِ النّاسِ نوايا"، فإخفاقنا على صعيد العمل مَرهونٌ بإخفاقنا في صعيد النّيات، والقاعدة الأصلية معروفة "لكلّ شيءٍ إذا صَحّ أصلُهُ صَحّ فَرعُه"، والنّيةُ أصلُ كلّ عمل، فإذا صَحّ الأصل وثبت، وَجَد الفَرعُ طريقه في النبات.

وقال ابنُ المُبارك "إنّ الرجل ليبلغُ بِنيّته ما لا يَبلغُ بِعمله".. برأيي أنّ أعظم ما يُمكن للمرء فعله في رَمضان وغيره هو باب النّيات والإكثار منها، والمَشيِ في قضاء حوائج الناس، فلقد جاء في الحديث الذي يرويه ابن عبّاس "من مَشى في حاجة أخيه كان خيراً لهُ من اعتكاف عشر سنين، ومن اعتكفَ يوماً ابتغاء وجه الله جعل الله بينه وبين النار ثلاث خنادق كل خندق أبعد مما بين الخافقين ".

من سيعبدُ رمضان لأنه رمضان؛ فإنّ رمضان زائلٌ لا محالة وما هي إلّا "أَيَّامٌ مَعْدُودَاتٌ".. أمّا الله فهو باقٍ وليسَ بِفاني.. فلنكن رَبّانيين لا رَمضانيين..

لا يَليقُ بالله عز وجلّ ما نفعل في رمضان ثم ندخلُ فيه ونخرجُ وكأنّ شيئًا لم يكن.. لا يَليق.. الله في رمضان هو الله في شعبان هو الله في شوال هو الله في رجب هو الله في بقيّة الشهور.. ما لا يجوز في رمضان هو بالفعل لا يجوز في بقيّة الشهور.. الأمر برمّته -رغم عِظمة هذا الشهر- لا يَغدو كَونهُ شهر من شهور السنة إلّا أنّ الله جعل فيه مضمار سباق وتنافس تتضاعف في الأجور..

فمن سيعبدُ رمضان لأنه رمضان؛ فإنّ رمضان زائلٌ لا محالة وما هي إلّا "أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ".. أمّا الله فهو باقٍ وليسَ بِفاني.. فلنكن رَبّانيين لا رَمضانيين.. رَحِمَ الله من صاموا معنا رمضان العام الماضي فوقَ الأرض، وها هُم يُشاركوننا الصيام هذا العام تَحتَ الأرض.. رَحِمَ الله من سكنوا قلوبنا وفارقونا وما فَتِئَت قلوبنا تَذكُرُهم.. إلى رُوحكم السلام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.