شعار قسم مدونات

في قلبي عامل نظافة

A man clears the ground in front of El Nour Mosque at El Abbassia Square after clashes last night between demonstrators with loyalists of the ruling military council near the defence ministry, the headquarters of the Supreme Council of the Armed Forces, in Cairo July 24, 2011. Scores of people were injured in Cairo on Saturday when thousands of demonstrators fought opponents with stones on their march to the Defense Ministry to urge their military rulers to speed up reforms, witnesses said. REUTERS/Mohamed Abd El-Ghany (EGYPT - Tags: CIVIL UNREST POLITICS)
في إحدى الجامعات، طلبت أستاذة من تلامذتها التعبير في بضعة أسطر، عن الموضوع التالي: "ما هي مهنة والدك وكيف تساهم هذه الأخيرة في تنمية أسرتك ومجتمعك". انفرد كل منهم بورقته، محاولا ترتيب أفكاره وصياغتها، إلا طالبة واحدة، ظلت تدور بعينيها هنا وهناك، كمن يبحث عن شيء ضائع أو كمن يحاول الفرار من مأزق. تحمل القلم لتدون ما يدور بخاطرها، فتهرب منها الكلمات لتختبئ بين جدائل شعرها. حالتها الغريبة تلك، أثارت استغراب أستاذتها، كيف لا وهي التلميذة المتفوقة، صاحبة القلم المبدع والهمسات الرنانة. احتمال فقدانها لوالدها لم يكن مطروحا أبدا.. كان لا يزال على قيد الحياة، لكن نظراتها كانت تخفي غصة عميقة.

مر الطلاب، الواحد تلو الآخر لعرض كتاباتهم، وفي كل مرة كانت أعينهم تلألأ، اعتزازا بآبائهم وتقديرا لهم. حان دور الفتاة، فوقفت صامتة لثوان، يداها ترتجفان وقلبها يخفق بسرعة، ثم حركت شفتيها، كالذي وُهب نعمة الكلام بعد فقدان طويل: " أبي…"، قاطعها أحد زملاءها باستهزاء: "والدها ليس سوى عامل نظافة.. أي دور قد قَدَّم وأي عمل قد صَنع، ليجعلها فخورة به!".

كان يمارس حب الحياة وهو يكنس الأرصفة والشوارع، يجمع مخلفات المواطنين والبسمة لا تفارق شفتيه.. أذكر يوما أنه تعرض لجرح عميق في يده، فرفض التغيب عن دوامه.

ربتت الأستاذة على كتف الفتاة، وتوجهت نحو طلاب صفها قائلة: "دعوني أحدثكم عن أبي.. كان هو أيضا عامل نظافة.. عامل بمرتب بسيط، يكفيه بالكاد لسد حاجيات أسرة مكونة من خمسة أفراد وإعالة والديه العجوزين. رغم قسوة الحياة ومرارتها، كان دائما ضحاكا بساما، لم يشتك يوما من تكاليف الأدوية ولا من مصاريف الجامعة ولا حتى من نكد أمي.. ولعله كان يخبر الله كلما أطال السجود. لم يرتد المدرسة قط، بل تعلم على يد "فقيه" جامع القرية. حمل كتاب الله في صدره وجعل كل آية منه، نبراسا له في نفق الحياة.

يستيقظ يوميا وأولى نفحات الفجر، ثم يتجه نحو عمله بكل فرح ونشاط ؛ كان يمارس حب الحياة وهو يكنس الأرصفة والشوارع، يجمع مخلفات المواطنين والبسمة لا تفارق شفتيه.. أذكر يوما أنه تعرض لجرح عميق في يده، فرفض التغيب عن دوامه.. ضمني إلى صدره كحزمة قمح ثم قال لي: "من سيفتح الشارع للمهندس والطبيب والمعلم!"، علمت حينها، أن حجر الزاوية في الهيكل ليس بأعظم من الحجر الذي في أسفل أساسته.. كل منهما مهم، لكن البعض ينخدع ببريق المظاهر.
 

يعود إلى البيت في الغسق كل مساء، منهكا من فرط الوقوف لساعات تحت أشعة الشمس والتعرض لمضايقات تصل أحيانا لحد السب والشتم.. مضايقات تتصدع لها جدران النفس فتهوي في لمح البصر، ومع ذلك لم يأبه يوما ب"لعنة العمل "..كان جفنا يحرس أفراد أسرته، يقاسمنا سويعات راحته، فتُزهر أكمام قلوبنا بحديثه كبرعم أوركيد في بداية الربيع، ثم يدفن همومه في بئر الصمت ويخلد إلى النوم مرددا أنشودة الشكر والحمد.

لم أَنس يوم باع معطفه الوحيد ليشتري لأخي حذاء رياضيا جديدا، ذاك المعطف الذي وقاه لسنوات برد العمر.. يومها حزنت كثيرا، لم يكن مجرد ثوب يغطي جسده، بل كان بمثابة حضن دافئ لنا، يحمل على أجنحته قطرات عرق عامل شريف، امتزجت بحب الوطن والعطاء. أبي الذي أوصانا دائما، أن ننظف قلوبنا قبل غرفنا، أن ننفض الغبار عن أرواحنا قبل نفضه عن مائدة طعام، أن نقوم لعملنا كما نقوم للعبادة، مخلصين لله، لم يكن سوى " عامل نظافة "…

يوم جنازته، شاركت جموع غفيرة في تشيع جثمانه الطاهر.. حزن الحي بأكمله، كبارا وصغارا شهدوا له بالطيبة وحسن الخلق والمعاملة، حتى القطط والكلاب الضالة التي كان يطعمها، ظلت تتردد لأيام على البيت بحثا عنه، أما نحن فقد ظل في قلوبنا ذكرى ترفض النسيان ".
 

لعل القصة من نسج الخيال، لكن جزءا منها يلامس الواقع، لن أتحدث عن عدد المرات التي وجدنا فيها أنفسنا مضطرين للكتابة عن مواضيع تنهش أرواحنا، ولا عن مدى "استمتاع" بعض المقررات الدراسية في إحراج قلوبنا، بل أود أن ألفت انتباهكم إلى ردة فعل ذلك الشاب، الذي انتقص من دور عمال النظافة، والحقيقة أنه صورة مصغرة عن مجتمعاتنا، إلا من رحم ربي.

لم أَنس يوم باع معطفه الوحيد ليشتري لأخي حذاء رياضيا جديدا، ذاك المعطف الذي وقاه لسنوات برد العمر.. يومها حزنت كثيرا، لم يكن مجرد ثوب يغطي جسده، بل كان بمثابة حضن دافئ لنا.

فئة تواجه كل أنواع الاحتقار وسوء التعامل، في حين أنه في "كواكب" أخرى، تجاوزتنا بآلاف السنوات الضوئية من التحضر والإنسانية، تحظى هذه المهنة بكل الاحترام والتقدير. هم جنود خفاء، يخدمون الوطن ككل المهن النبيلة بثبات وعزم، فلا الفقر عيب ولا العمل انتقاص من الكرامة وإنما العيب كل العيب في قلة الوعي وانعدام الإنسانية. علموا أبنائكم أن النظافة مسؤولية الجميع وأن ترك النفايات في غير محلها، ليس سوى تعبير عن جوعهم الأخلاقي.. ذكروهم أن الدين معاملة ورحمة وابتسامة وقبل كل ذلك، كونوا أنتم قدوة حسنة لهم، واجعلوا أفعالكم ترجمة لأقوالكم. تحية لكل عمال النظافة.. لروحكم أطواق من الفرح والمودة.
 

ملاحظة عابرة: أحبوا آباءكم دون قيود وضعوا لهم ركنا خاصا في قلوبكم، افتخروا بهم ولا تخجلوا من مهنهم "البسيطة "، إذ ينطبق عليهم وصف جبران خليل جبران، حين تحدث عن أهل العطاء:"هؤلاء يعطون ولا يعرفون معنى الألم في عطائهم ولا يتطلبون فرحا ولا يرغبون في إذاعة فضائلهم.. يعطون مما عندهم كما يعطي الريحان عبيره العطر في ذلك الوادي، بمثل هؤلاء يتكلم الله ومن خلال عيونهم يبتسم على الأرض"، أفلا يستحقون إذن كل الامتنان والتقدير…

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.