شعار قسم مدونات

الرواية العربية.. انتشار يقابله اضمحلال

blogs - كتابة

رسالة إلى صديقي الكاتب.. منذ فترة ليست باليسيرة زاد انتشار الكتابة في مجال الرواية على نطاق واسع، وشَغُفَ جيل الشباب بهذا اللون الفني. فنجد مئات الروايات تصدر سنوياً عن دور النشر العربية. ولكن في مقابل هذا الانتشار نجد إقبال القارئ يضمحل وينزوي. فما سر هذا الانتشار وما سر هذا الاضمحلال؟!
 

دور النشر لم تعد تقرأ وتدقق وتقيم بموضوعية وعلى أسس فنية قبل أن تجيز نشر الأعمال الأدبية المقدمة لها، ولم تعد ترفض أي عمل مقدم طالما أن الكاتب مستعد لتحمل التكاليف المادية للنشر، فصار النشر لكل من هب ودب، وأسوأ المعضلات التي تواجه الأدب العربي، وليس فقط فن الرواية، التعامل على الأسس المادية. فكل من خطت يده كلمة صار يحمل لقب كاتب، فنجده يقرن هذا اللقب باسمه كأنه لازمة. وكُثر من الكتّاب الشباب هم أبعد ما يكون عن قواعد الفن القصصي.

أكثرهم انساقوا خلف التكلف والتصنع في استخدام اللغة وخلطوا بين اللغة الشاعرية واللغة المتكلفة في استخدام الألفاظ والصور البلاغية. وفريق آخر أهمل اللغة بشكل جعل نتاجه أشبه بل نسخة، من أحاديث الشوارع المبتذلة، هذا الفريق أراد نقل الواقع فزلت قدمه ووقع قلمه في شراك العامية المبتذلة.

اعكس فكر مجتمعك وعاداته أو أكتب عن أي مجتمع تريد، لكن كن شفافاً في نقل واقع ذاك المجتمع، مالي أرى روايات تدور أحداثها في (الدقي) وتستعير عادات (إسطنبول)… روايات تدور أحداثها على أرض عربية وتلبس عادات غربية.

فريق ثالث جرفه تيار التحرر اللامقبول المناقض لكل الأعراف والعادات. فأصبحت روايته نموذج لفلم إباحي، وقد وقعت بين يدي بعض الروايات لأقلام شابة والتي لا أبالغ حينما أقول إنك تشعر وأنت تقرأ الرواية من على شرفتك كأنك تطل على (كباريه).

يجاهد ذاك الكاتب المسكين كي يقنعك أن العالم من حولك بهذه الصورة، غارق في المفاسد والرذائل مستخدماً كل الألفاظ بسوقية غير مسبوقة، فقد طالعت مؤخراً في بعض الروايات التي نشرت ورقياً خلال عام 2016 مفردات لم يخطر ببالي يوماً أن مثل تلك الكلمات قد تكتب بهذه السوقية والوقاحة.

هذا الفريق الأخير قد سمع يوماً أن الكاتب المنفتح في كتاباته على المشاهد العاطفية يجد إقبالاً من القارئ، فطبق ما سمع على نتاجه وبالغ في الأمر حتى أسقط صفة الفن عن نتاجه وأوصله حد التقزز، منتهكًا حرمات الفن والذوق الرفيع.

لا نقد صادق يأخذ دوره التوجيهي للكتّاب، فجل الآراء تحكمها الأهواء الشخصية، فصديق الكاتب يمدحه رياءً، ومنافسه أو من يمقته يذمه ويذم نتاجه ويوجه له نقدًا ينافي كل قواعد النقد البنّاء. فمعظم نماذج الرواية العربية المعاصرة لجيل الشباب، لو بحثت بين طياتها عن عناصر الرواية ستجدها متلعثمة، يطغى عنصر على آخر. فيعطي الكاتب اهتمامه لبعض العناصر على حساب العناصر الأخرى دون مبرر. فيتوه القارئ بين الشخصيات التي تأتي بلا سبب وتغيب دونما أعذار.

إذا قمنا بحسبة لنسبة حضور الشخصيات لن تجد تدرجاً مقبولاً يتناغم مع الأحداث. وللحدث في الرواية حكاية أخرى، فالتشويش يخلخل نسيج الأحداث فتجد القارئ المغلوب على أمره تائه بين دفتي الرواية يجدف عبر الصفحات علّه يرسو على فكرة أو يقتنع بمبدأ، فيصطدم بالنهاية التي لا تشفي غليله. فكثير من الأحداث بقيت معلقة وقد يكون ما جعل الكاتب يلجأ لهذه النهاية المحبطة حجة النهاية المفتوحة.

لا يا صديقي هناك فرق بين نهاية مفتوحة تعطي من خلالها للقارئ بعض الإشارات والرمزية فيُعمل خياله وينسج بشغف ما قد يحدث فرحاً بما يستخدمه من استباق للنهاية وتخمين يرضيه، وبين النهاية التي تجعل القارئ تائه يشعر بالإحباط لأنه لم يجد أي خيط قد يوصله لأي نهاية تقنع خياله وترضي ذكاءه.

القارئ يا صديقي ذكي، يجب أن تتعامل معه على هذا المبدأ وإلا خسرته. القراء في وطننا العربي قلة وعملة نادرة لن تكسب ودهم إلا بارتقائك بالفن الذي تقدمه، فأنت وحدك المسؤول الأول والأخير عن نتاجك، فما تقدمه فكرة وكلمة خطتها يدك، تنتقل مباشرة من رأسك للورقة لعقل القارئ فيعشقك أو يمقتك. وعلى عكس الفنون الأخرى مثل السيناريو المقدم عبر عمل تلفزيوني أو سينمائي فليس الكاتب هو المسؤول الوحيد عن نجاحه فللمخرج دور وللمنتج دور وللمثل دور …إلخ.

لا بد للكاتب أن يصمد هو وقلمه في وجه كل التيارات المبتذلة التي أوقعت وتوقع الأدب بشكل عام في معضلة. مثل التيارات التي تدعو للعامية، والتيارات التي تدعو لانحلال أخلاق الأقلام، والتيارات التي تخفي واقع المجتمع العربي لتحل محله صورة مزيفة بعيدة كل البعد عن واقع القارئ وهمومه ومشكلاته.

الرواية تقوم على أساس عام هو تمثيل تجربة الكاتب وعكسها على الواقع، فمن المفترض أن يجد القارئ نفسه بين السطور، فتنقل صورة مجتمع معين وتطلع القارئ على حضارات الأمم وعاداتها، وبتطبيق هذا المبدأ نجد روايات تنتقل بالبيئة المحلية إلى البيئة العالمية. فطالما تعرفنا على حقب تاريخية وعادات اجتماعية من خلال ما قرأنا من روايات. وكثير من الروايات أثرت في القارئ والمجتمع وأحدثت تغير وثورات. فلماذا تتوه يا صديقي بين واقعك وواقع آخر دخيل على ثقافتك؟

اعكس فكر مجتمعك وعاداته أو أكتب عن أي مجتمع تريد، لكن كن شفافاً في نقل واقع ذاك المجتمع، مالي أرى روايات تدور أحداثها في (الدقي) وتستعير عادات (إسطنبول)… روايات تدور أحداثها على أرض عربية وتلبس عادات غربية… لا تتحاذق فما تظنه يحوز على إعجاب قارئك ليس واقعه ولا يعالج مشاكله اليومية إنما يعطيه لمحة لحياة بعيدة كل البعد عن حياته ومشكلاته فيتركك ويمضي منذ الصفحات الأولى. فانعدام الفكرة وابتعادها عن الواقع ومجاراتك لقشور الحضارة الزائفة، وتمثيلها لعادات دخيلة على المجتمع العربي كل ذلك يحدث جفاء بينك وبين القارئ.

في محطة أخرى جاء دور الأعمال التلفزيونية الدرامية محطماً للأدب الروائي في كثير من الأحيان. فصار همّ جل الكتّاب خاصة الشباب هو تحويل نتاجه الروائي إلى عمل سينمائي أو درامي تلفزيوني، ومنذ سطور الرواية الأولى يفكر في شكل الرواية كسيناريو تلفزيوني. فتاه قلمه بين السيناريو والرواية وأصبح العمل منقوص ومن هنا تفككت العناصر وانهارت قوى الرواية كفن أدبي له نسيجه الخاص، فعلى الكاتب أن يدرك أن السيناريو جنس أدبي له أسس واعتبارات تختلف عن الرواية.

لا بد للكاتب أن يصمد هو وقلمه في وجه كل التيارات المبتذلة التي أوقعت وتوقع الأدب بشكل عام في معضلة. مثل التيارات التي تدعو للعامية، والتيارات التي تدعو لانحلال أخلاق الأقلام، والتيارات التي تخفي واقع المجتمع العربي لتحل محله صورة مزيفة بعيدة كل البعد عن واقع القارئ وهمومه ومشكلاته، والتيارات التي تحكم على نجاح العمل من خلال تحويله لعمل تلفزيوني أو سينمائي. فكم من رواية مُحي بريقها عندما تحولت لعمل تلفزيوني أو سينمائي وكم مرة أُحبطنا عندما شاهدنا ما قرأناه بين دفتي كتاب مجسداً في عمل تلفزيوني ضعيف.

الروايةُ عملٌ أدبيٌ إنسانيٌ راقٍ، فيه يجد الكاتب مساحة ليعطي صورة حية للحياة والإنسان. وفيه يجد القارئ تفاصيل لا يجدها في أجناس الأدب الأخرى، ويجد فيها الوقت الكافي والمساحة الكافية ليرتع بخياله ويعيش الأحداث ويصادق الشخصيات أو يعاديها. فرجائي لكل زملائي الكتّاب لا تحجموا هذا الجنس الأدبي، ولا تفقدوه مصداقيته في تمثيل واقع الحياة، فتجعلونا نمله ونحن طالما شغفنا به حد العشق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.