شعار قسم مدونات

"الشعر" ناي البوح الحزين

blogs- الكتابة

إذا كنت من المطّلعين على الشعر العربي ومن عشّاق البيان العربيّ، فدعني أطرح عليك سؤالاً: هل تستطيع أن تنشدني قصيدة تبعث الفرح والسعادة في النفس؟ طبعاً باستثناء قصائد إيليا أبو ماضي الذي عرف بأنه شاعر التفاؤل. الجواب: هو أنك لن تجد من هذا النمط من القصائد إلا القليل القليل، وستجد بجانبها المئات من قصائد الحزن والفراق والبكاء، بل إن البكاء على الأطلال غدا سنّة العرب منذ "قفا نبك" حتى يومنا هذا. لكن لماذا؟ا

لماذا نحن العرب مولعون بالبكاء والحزن؟ ولماذا إذا أردنا استنشاد قصيدة فإننا نقول: أنشدنا قصيدة حزينة؟ أسباب البكاء عند العرب كثيرة ولا تكاد تنتهي، ولعلّ شيخ طريقة البكاء على الأطلال امرؤ القيس قد جمعها بشطر بيت: "قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل …"

الذكرى والحبيب والمنزل، هي الثلاثة التي يفقدها العربيّ مستسلماً منصاعاً لا يملك ردّ القدر ولا دفعه ولا تغييره. إن شبح الشعور بالفقد لازم العربيّ ملازمة شيطان الشعر له، حتى جعل المتنبي أعظم لحظات الحزن هي أعظم لحظات الفرح: "أشدّ الغمّ عندي في سرور … تيقّن عنه صاحبه انتقالا".. لم يفارق الفقد المتنبي حتى في نظرته للعشق، فإنه على يقين بأن كفّ الفراق ستحول بينه وبين من يحبّ: "نصيبك في حياتك من حبيب ….نصيبك في منامك من خيال"

الشعر العربي ولد في مأتم وستظلّ نبرة الحزن هي التي تعزف على أوتار قلوب شعراء العرب ولن تمحى من الشعر حتى تدع الحنين الإبل.

ولكأن العربيّ قد وضع نصب عينيه النهاية قبل أن يبدأ، وكأنه سمعَّ جِبْرِيلَ إذ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "يَا مُحَمَّدُ أَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ ؛ فَإِنَّكَ مُفَارِقُه، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ ؛ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ، وَعِشْ مَا شِئْتَ ؛ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ".

هذا الشعور بالفقد لم تغيّبه اللذائذ المفرطة، لم يغيّبه الخمر ولا النساء، فأبو نوّاس الذي اقترن اسمه باللهو والنساء والخمرة – بل والغلمان – لم يكن لينسى نهايته المريرة، بل كان كلّما تذكّر نفوق اللذات والرحيل عن الدنيا قال:
يا دارُ ما فعلتْ بك الأيّأمُ … ضامتك والأيّام ليس تُضام

عرمَ الزمان على الذين عهدتُهم … بك قاطنين وللزمان عُرام
و لقد نهزتُ مع الغواة بدلوهم … وأسمتُ سرح اللهو حيث أساموا
و بلغت ما بلغ امرؤٌ بشبابه … فإذا عصارة كلّ ذاك أثام 

إن أبا نوّاس السكّير العربيد، صاحب اللهو والغزل والمجون لم يكن لينسى في لحظة أنّ كلّ ما أحبّه وسيحبّه مفقود، وأن الحياة لا تعطيك إلا ما ستأخذه منك سريعاً.. الشعر العربي ولد في مأتم وستظلّ نبرة الحزن هي التي تعزف على أوتار قلوب شعراء العرب ولن تمحى من الشعر حتى تدع الحنين الإبل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.