شعار قسم مدونات

سيادة للشريعة وسلطة للأمة

blogs - islamist
من هذه الثنائية الصلبة انطلقت الجماعات الإسلامية في التعبير عن رؤيتها السياسية لحشد الشعوب وتعبئة السائرين خلفها في إنجاز مشروعها الإسلامي المنشود، لكننا عند التطبيق والممارسة نجد أن أغلب الجماعات الإسلامية مصابة بمرض وحدة الوجود الفكري، لتصبح المعادلة عندهم، كل من يرفضنا ويرفض حكمنا هو يرفض الشريعة بالتلازم والضرورة، وتتحول هذه الشعارات إلى متاريس تتمترس الجماعة بها لتنال قدسية خاصة مستمدة من قدسية الشعار وفوقية مأخوذة من سمو الفكرة ولتريح نفسها من صياغة المشروع المقنع في التنمية والسياسية وتكتفي بهذا الشعار الجذاب ذو التأثير المخدر عن رؤية القصور والخلل.

وبناء على هذه المقدمة تجد الكثير من الجماعات الإسلامية الغضاضة في أن تعرض نفسها على الشعب بحجة أنه لا يجوز التصويت على الشريعة وأن الشريعة هي مبدأ فوق دستوري لا ينازع فيها أبداً، فتندمج في ذات الجماعة سيادة الشريعة بسلطة الأمة وتصبح الجماعة هي العير والمعبر عنهما ويختلط المثال بالمثال والمبدأ بالأشخاص. صحيح أنه لا يجوز التصويت على الشريعة كمبدأ، ولكنه من بدع القول أنه لا يجوز التصويت على الشريعة كممارسة وسياسية ولا يجوز الاعتراض على الشريعة كفهم وتأويل واجتهاد بشري يعتريه الخلل والانحراف.

نهى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أمير بريدة أن ينزل عدوه إذا حاصرهم على حكم الله وقال فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك (صحيح مسلم).

وبما أن الجماعات الإسلامية تحسب من نفسها أنهم الأمناء على الشريعة ويمثلون النموذج التنظيمي الذي يعبر عنها، وبما أنهم طليعة الأمة ونخبتها التي تمثل تطلعاتها وأحلامها السياسية فلا ضرورة تدعو لأن تعرض نفسها على الجماهير في انتخابات حرة فهي الوصية الحصرية على تطلعات الناس. وإن واجهتهم بفرضية طالما أنكم واثقون من أنفسكم وتمثيلكم لرغبات الناس فلماذا لا تدعون الشعب هو من يختاركم وفق آلية تقيس رأي الجماهير المسلمة فيكم حتى نجسد مبدأ سلطة الامة.

هنا يأتيك الرد ماذا لو لم تخترنا الجماهير؟ قلنا لهم لا يلزم من عدم اختيار الجماهير لكم أن الجماهير ترفض الشريعة وإنما هذا يدل على أن الجماهير ليست مقتنعة بالنموذج الذي تقدمونه عن الشريعة، وهنا يجب أن ندرك فرقا كبيرا يقع الخلط فيه عند الكثير من هذه الجماعات وهو الفرق بين رفض الشعب للشريعة كمبدأ وبين رفض الشعوب لتطبيق الشريعة كأسلوب. لا شك أن رفض التحاكم لشريعة الله تعالى كمبدأ عقدي يطعن في إيمان هذا الرافض، أما أن ترفض سياسة الحاكم المدعي لتطبيق شرع الله تعالى والذي ينسب حيفه وجوره للشريعة فهذا يكون من صميم وغاية ما تطلبه الشريعة.

على الجماعات الإسلامية أن تدرك أنها عندما ترفض من الشعب فهي أمام احتمالين: إما أن هذا الشعب هو شعب فاسد جاهل لا يهمه أمر الدين ولا يمكن أطره على الشريعة ومن يقدم نفسه لتحكيم الشريعة هو إنسان صالح فتقع عليه في هذه الحالة مهمة إصلاح هؤلاء الفاسدين قبل أن يندب نفسه لحكمهم ويعذره الله تعالى بالعجز إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وإما أن من يندب نفسه لحكم الناس بالشريعة يمثل جهة فاسدة لا تؤتمن على الشريعة ولا تعبر عنها بشكل مقنع، وهنا على من يندب نفسه لحكم الناس أن يقوم بإصلاح نفسه ويحسن عرض بضاعته عليهم قبل أن يتقدم لحكمهم حتى لا يوقعهم في الفتنة عن دينهم من خلال دمج الدين في التدين ودمج الشريعة في تطبيق الشريعة.

والفرق كبير بين الشريعة كمثل وبين تطبيق الشريعة كمثال، فالشريعة عبارة عن معطى إلهي منزل مستمد من الوحي ومتمثل في المحكمات والقطعيات والكليات الشرعية، وأما التطبيق فهو فعل بشري اجتهادي تاريخي لذلك المعطى الإلهي فالتطبيق ليس دينا بالضرورة بل قد يكون مخالفا للدين، وقد يكون مفسدا لغايات التشريع ومناقضا لمقاصده، كما هو الفرق بين الدين والذي هو وضع إلهي معصوم ومثالي ..

والتدين الذي هو انفعال البشر مع الدين وهو غير معصوم البتة ويقبل النقاش بل والإسقاط والذي ينبغي التركيز عليه لحفظ الأذهان من تجاوزات المتدينين. وهذا يعني أن تطبيق الشريعة قد يكون معارضا لـ الشريعة ذاتها، وبالتالي فنقد ذلك التطبيق ورفضه وإنكاره لا يلزم منه إنكار ورفض الشريعة في نفسها، فالتطبيق محكوم بمبادئ وكليات ومقاصد التشريع وليس كل تطبيق هو موافق لمقاصد الشريعة.

يقول ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين الجزء الاول: وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أمير بريدة أن ينزل عدوه إذا حاصرهم على حكم الله وقال فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك (صحيح مسلم).

فتأمل كيف فرق بين حكم الله وحكم الأمير المجتهد، ونهى أن يسمى حكم المجتهدين حكم الله، لذلك نلحظ أن الكثير من الجماعات الإسلامية يحاول أن يستر رغبته في مصادرة سلطة الأمة من خلال اخفاء هذه المصادرة بغلاف من سيادة الشريعة، الأمر الذي يفضي أن تكون السيادة والسلطة مستحوذ عليها في يد الجماعة وحدها، ينتهي الأمر أن لا يكون هناك سيادة لا للشريعة ولا هناك سلطة للأمة.

وللإنصاف فإن تياراً لا بأس به من التيار الإسلامي أصبح يعي هذه الفروق الدقيقة التي ترسم التصور للديها عن علاقة الجماعة بالأمة وعلاقة الجماعة بالشريعة، والقسم الغالب لايزال مأسوراً لهذه التداخلات القاتلة لنضج التصور السياسي والحركي عند الشباب الإسلامي حتى في طريقة المنازلة الفكرية بين التيار الإسلام وقطاعاً لا بأس به من التيار العلماني المتصالح مع الهوية الذي يطالب بفصل الدولة عن التدين فيقوم بعض الإسلاميين بإدارة المنازلة معهم بطريقة تحشد عواطف الجماهير وتصوير الأمر أنهم يطالبون بفصل الدين عن الدولة وهذا ما باتت ترفضه شريحة واسعة حتى من الصف الإسلامي نفسه.

إن تياراً لا بأس به من التيار الإسلامي أصبح يعي هذه الفروق الدقيقة التي ترسم التصور لديها عن علاقة الجماعة بالأمة وعلاقة الجماعة بالشريعة، لكن القسم الغالب لايزال مأسوراً لهذه التداخلات.

إن الجماعات الإسلامية مطالبة اليوم أكثر من كل يوم مضى بوضع الخطوط الفاصلة التي تمايز بين سيادة الشريعة وبين تصورها وفهمها الخاص وتفسيرها لنصوص وأحكام الشريعة المشوب أحياناً بكثير من السطحية المفرطة أو الاختزال المشوه وحصرها في زاوية الحدود والعقوبات أو بالتخصص في حق من يقوم بتطبيق الشريعة وحصرها في مهمة السلطة وحدها وإلغاء أي دور لأفراد الشعب.

و بوضع الخطوط الفاصلة بين سلطة الأمة وحقها السياسي في اختيار من يحكمها، وبين شعور الجماعة بأحقيتها في التسلط على خيار الأمة، فإن مفهوم أهل الحل والعقد بمفهومه التاريخي بات من شبه المستحيل أن يكوون صالحاً للتطبيق في هذا العصر، الأمر الذي يحتم علينا أن نعود إلى خيار الشعب والأمة الحر في إسناد السلطة وإبرام التعاقد السياسي وفق ما ترتضيه من شروط بما يشبه عقد الوكالة والإجارة، وليس على ما يشبه عقد الرق والوصاية.

فلم تعد الثيوقراطية المختبئة تحت عباءة شعار الإسلام هو الحل تعارض حقيقة أن سيادة الأمة هي الحل فكثيراً ما يكون الحل في الإسلام ولكن المشكلة في الإسلاميين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.