شعار قسم مدونات

مأساة الإنسان.. ما جنته الحداثة وما بعدها

مدونات - الإنسان

في عصر العولمة اختلطت على الإنسان المعاني والتعريفات وتاه بين المصطلحات والأفكار رغم أنه يتحرك من منطلق فلسفي وفكر له أبعاد ونظم شاء أم أبى، فبحسب أرسطو "إما أن التفلسف ضروري فلا بد من التفلسف، وإما أنه غير ضروري فلا بد أيضًا من التفلسف لإثبات عدم ضرورته" فالأمر سيقود لتفلسف بلا شك، كما أنه يقول أن "الدهشة هي التي دفعت الناس للتفلسف" وهو الأمر الغائب الذي افتتح به (جوستاين غاردر) روايته الفلسفية "عالم صوفي"، فانعدام هذه الملكة الفطرية تؤدي لرتابة قاتلة لكثرة المسلمات وجهوزية الأجوبة المنمقة مما قد يؤدي لركود وجمود عام.
 

انعدام الشعور بالدهشة الذي يتسم به الأطفال سيقود الإنسانية للوقوف على حافة الهاوية ولا أقولها إطلاقا من الأساس الذي جعل سيد قطب يقول هذه الجملة، بل أقولها لأن الرتابة والآلية العملية والعملية ستؤدي لركود قاتل وفقدان للمعنى الإنساني الحيوي والذي يفوق قالبه المادي ويحيط باحتياجاته الجسدية، والدهشة في هكذا حال ستدعو آلاف وملايين الأسئلة إلى عقل المفكر والإنسان الحقيقي ذو الفطرة السليمة، ليتوه في المصطلحات والمسلمات التي أصبحت من المجمع عليه في هذه القرية العالمية التي لا ترحم من يخالفها مما سيجعله يعيش في عدمية وأناركية قد تقوده لبؤس كافكا وعدمية سارتر وعبثية كامو.
 

الغريب أن مناهج التعليم الأوروبية تنظر للتاريخ على أنه مقسم لثلاثة أطوار (عصر الإغريق، العصور الوسطى والعصر الحديث من بعد الثورة الفرنسية) بتغافل تام عن باقي الشعوب ووضعها على الهامش كأنها ظواهر عابرة.

ففي كتاب "الصحراء" للمفكر علي شريعتي قال "إن الفكر الذي ليس فيه ألم ولا التزام والذي لا علاقة له مع الحقيقة ويتيه في خلاء فارغ فإنه يصل إلى عمية سارتر وإلى عبث كامو أو إلى جزع بيكيت من الانتظار أو إلى انتهازية كافكا أو إلى خداع النفس واجنان الخيالية لدى آنندريه جيد أو إلى طغيان السريالية السوداوية أو إلى تخيلات هيغل أو توهمات بيركلي"؛ نستخلص قاعدة عامة من هذه المقولة وهو أن الاعتدال بالفكر مع الأخذ بعين الاعتبار الصعوبات والاستثناءات التي قد تقع واجب لبناء هيكل معرفي ووعي جمعي متين لا يزيغ ولا يفرط أو يطفر ولا يخرج عن حيزه العام، ودليل عمومية ذلك هو توجه أبو جعفر المنصور للإمام مالك حينما قال له "ضع للناس كتاباً في السنة والفقه تجنب فيه رخص ابن عباس وتشديدات ابن عمر وشواذ ابن مسعود ووطئه توطئة" فكتب الإمام رضي الله عنه كتابه "الموطأ" الذي يضعه بعض العلماء بعد الكتب الستة عند أهل السنة ومنهم من جعله أرفع من بعضهم درجة.
 

علامات الزيغ عن فطرة الإنسان وطبيعته المعتدلة العاقلة تتمثل في كتاب ككتاب "الياسق" الذي وضعه جنكيز خان كقانون وناموس لرعيته وكان عبارة عن خلطة من التشريع اللاإسلامي واليهودي والأعراف المغولية ظنا أنه قد فعل ما لم يسبقه عليه أحد وكأنه أمر سيغفر له ما سفك من دماء وسيبرز جانبه الإنسان باهتمامه لمحكوميه والعلاقة بين الحاكم ومن تحته.

كذلك الأمر يتجلى في فلسفة (هيغل) عند قراءته للتاريخ فقد قام بتقسيم الشعوب على أساس جغرافي يجعل من الشعوب الأوروبية ذروة العقل البشري ونهاية تاريخهم لما قد وصوله من جبروت ومساهمات فكرية عند انتكاسة المسلمين في الحقول المعرفية، مما جعله يتنكر لحضارة الإسلامية وأن يذكرها على هامش محاضراته "في فسلفة التاريخ" والأمر اتجاه الشعوب الأفريقية يكون في حالة يرثى لها عنده.
 

والغريب أن مناهج التعليم الأوروبية تنظر للتاريخ على أنه مقسم لثلاثة أطوار (عصر الإغريق، العصور الوسطى والعصر الحديث من بعد الثورة الفرنسية) بتغافل تام عن باقي الشعوب ووضعها على الهامش كأنها ظواهر عابرة، وكأن أوروبا هي مركز الحضارة والعالم رغم أنها كان تسبح في بحر من الدماء باسم الحروب المقدسة والنزاعات الكاثوليكية البروتستانتية، ذلك عدا عن الغوغائية والانحطاط الفكري الذي ما كانت أن تقوم له قائمة لولا ترجمات المسلمين وفلسفتهم التي انتقلت إليهم وعلى رأسها فلسفة "ابن رشد" مما دفع الكنيسة لرصد (توما الأكويني) للرد عليها لشدة العنجهية والتخلف.
 

تجلت نظرة هيغل في العصر الحديث عند فوكوياما غيره من المفكرين الذين وضعوا للتاريخ نهاية يزيد على الإنسان محنته الفكرية ويجعله مقولبا في زمان ومكان وبعد معرفي أحادي الاتجاه يسير بشكل عامودي في إطار دنيوي بعد أن كانت النظرة العامودية للزمان تنطيق على الفكر الديني الذي يقضي السير من الدنيا إلى عالم الملكوت صعودا وهو ما تحول لنظرة أفقية، لكن غفلة الباثين وتعنتهن ومناكفتهم للأفكار الدينية التي تقيدت بالإكار المسبقة الجافة أعمتهم عن عامودية النظرة لتاريخ في الإطار الدنيوي مما جعل الدنيا هي الغاية فكان التصاعد عبارة عن تصاعد مادي في بحر فكري عاجز عن توفير الأساس النظري والفلسفي لهذه النظرة، وسيبقى عاجزا عنها لأن السياق المادي والدنيوي أقل بحبوحة من السياق الروحي والديني الذي يقدم للفرد الحاجة المادية والروحية ويعنى بالميتافيزيقا واللاهوت التي تشكل جانبا يضمن للإنسان حيويته.
 

في هذا الجو الذي يطغى بمادية قذرة نجد مؤلفات تعبر عن المأساة الإنسانية التي تاهت وسلبت في هذا الجو، وهذا التيه ينسرب إلى الجانب النفسي والتكويني للفرد الذي أصبح حجرا وصندوقا مغلقا مغرقا في حاجاته دون اعتدال.

لاحظ تلك الحاجة "علي عزت بيغوفيتش" في كتاب "الإسلام بين الشرق والغرب" حين كتب عن كون الفن والحركات الإيقاعية والصوتيات والرسوم عند الإنسان القديم فيها دلالة لحاجة تحتاج سقاية وتروي ظمأ ليس محسوسا أو مادي يخدم الجسد بشكل حصري، كما أن الأستاذ عباس محمود العقاد قد أوضح في كتاب "الله" أن الإنسان ومنذ القدم قد اتخذ لنفسه طواطم متعددة أخذت تتقلص وتنحصر حتى وصلت ذروتها في الديانات الإبراهيمية والتوحيدية وكان ذروة سنامها الإسلام، قد يكون هنا جانب حتمي يتصيده الجهلاء لكن يرافق ذلك الصيد غشاوة عن أن هذه الحتمية هي على الصعيد الفكري دون العملي وأن هذه الذروة يستنبط منها وجود مسار فكري وروحي يعنى بالجانب المادي والميتافيزيقي ليخدم الواقع الأنطولوجي العام وعلى مر التاريخ، الأمر الذي يعجز عنه أي بشر لقصر نظره وملكاته عن الإحاطة بهذه العمومية وشدتها.

إلا إن نبعت عن كامل مطلق يحيط بكل جواب الإنسان كإنسان متجرد ويحيط بجوانبه وما قد يزيغ به عن هذه القاعدة، فوضع له النظام والنموس المتمثل بالفقه والتشريع والأخلاق والتي نجد بها مندوحة واسعة جدا لن يقرها إنسان لا بعلمه ولا بقدرته لنقصانه ومحدوديته، وتنزيل ذلك هو دلالة على وجود الكمال وتوجيهه ضروري فهو ليس ما يخلق ويترك كما ظن أرسطو، بل إن دستوره قائم وإعجازه دليل ذلك كونه لا يحيط به عقل بشري، كما أن هذا النقصان هو دافع البشر لاتخاذ الآلهة القديمة وتكوين الميثولوجيا والخرافات والأساطير بشكل بدائي وهو ما برز في مؤلفي العقاد وبغوفيتش مما ذكرت سابقا.
 

في هذا الجو الذي يطغى بمادية قذرة نجد مؤلفات تعبر عن هذه المأساة الإنسانية التي تاهت وسلبت في هذا الجو مثل "الساعة 25 – قسطنطين جيورجيو" و"اللامنتمي – كولن ولسون" وهذا التيه ينسرب إلى الجانب النفسي والتكويني للفرد الذي أصبح حجرا وصندوقا مغلقا مغرقا في حاجاته دون اعتدال أو نظام عدا عن أخلاقيات المعاملات التي تسلب الفرد خصوصيته وتفرده وتعبر عن تنكر للإنسان وكينونته كأنه حيوان متطور فقط، لكن الأسى في أن هذه البيئة لها أساس نظري وفلسفي متهافت لا نجد عند مناوئيه إلا تخبط وتيه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.