شعار قسم مدونات

الصداقة منا ونحن منها

blogs صداقة

النبات لا ينبت إلا حيث يجد عناصر غذائه، فالصداقة أشبه بالتجربة الكيميائية -لا تخمينَ فيهَا- فلا يتفاعل عنصر الصوديوم مع الكلور إلا برفقة عنصر الماء، وكذا نحنُ بنو البشر أمرُنَا كالعناصر الخاملة، إن لم يكن لدينا رفيقٌ، مؤنسٌ، وما أثقلها من حياةٍ؛ تلك التي تخلو مِن قلبٍ يزِيل عنكَ الهمّ، وكتفٌ يُؤازِرُكَ في مُصابكَ وفِي الشدةِ تتكِئُ عليه بعد إرهاصةِ وجعٍ مُضنية.. الصديق الحق؛ هو مَن يعلم أينَ تكمن راحتك ويتحسس مواطن الوجع لديك، فيضمد الجرحِ كأنك لمْ ترَ بؤسًا قطْ. 

أن تحصُلَ عَلَى صديقٍ فِي أيامنا هَذِهْ فتِلكَ مُغامرة قاسية تحتاجُ فِيهَا إلى زادٍ وعتادٍ يكفيكَ لتحملِ الصدماتِ وما بعدها فمَن جنَى عَلَى نفسهِ بخوضِ التجربة لَا بُدَّ من تقبلهِ النتيجة وأن يرضى بنزول القدرِ فمتَى ينزلُ القدر تنزِلُ الدموع، حافظ عَلَى مَن تثِقُ به وإن كانَ حبل الوصل بينكم مُهتَرِئ، وإن كانت محادثتِكم علاها الغُبار وجَار عليهَا الزمن، فإنّ كُنتَ مُقصِرٌ فالتزم، وإن كُنْتَ مُخطِئًا فاعتذر، وجدد المياه الراكِدة فالأمر لَيْسَ سهلًا أن تبني علاقة جديدة، وكُن شاب الحياة فلن تُهزم، إذا أثلجت روحُكَ وروّحتَ عَن نفسك فعُمرُكَ كلهُ عمر الفجر! 

لن يموتَ مَنْ عاشَ وحدهُ إنما يبقى مخلدًا، أو بالأحرى لَن تموتَ وبينَ يديكَ كِتابًا، تتحسس أوراقه، وتترشرشُ بينَ دفتيه تطوّي الصفحة تِلوَ الأُخرى، فيتحرك الأمل فِي قلبك لكِيلا تملُّ فتيأس، وحسبُكَ أن تِلكَ الأماني التي لم تحقق -من الصداقةِ- فمرسَاهَا عَلَى الضفة الأخرى من ربيع عمرك وباقية فِي قلبك مُخَلّقة! 

الصداقة في نفسهَا من أصغر صغائِر الحياةِ ولكن متَى مَا خالطهَا الصدق والوفاء وحبٌ نابعٌ مِن القلبِ أصبحت فِي الحياةِ أكبر كبائرها، وشغلهَا الذي لا ننشغل عنهَا بشاغل

تجِدُ مِنَّا من يتخِذُ أمه صديقة، أو الأب كرفيقٍ وفي هذا يضيقُ الكون ثمَّ يضيق فكأنّه يجتمع عِندَهمَا، ومِنَّا من ولجَ مدارك أخرى، فاختارَ لنفسهِ حبيبًا -وهؤلاء من ضَاقت عليهم دُنيا جِنسهم- فرح به نشوان، ومن هنا يبدأ ما لَا يدرك، وذاكَ مِن أشدِ وأعنت ما فِي الأمر، وهو فِي سببهِ أكثر مِما هوَ في نفسهِ، لأنهُ خرجَ من المكانِ -محيط الصداقة إلى أول مدارج الحب- إلى الشعور. 

الصداقة في نفسهَا من أصغر صغائِر الحياةِ ولكن متَى مَا خالطهَا الصدق والوفاء وحبٌ نابعٌ مِن القلبِ أصبحت فِي الحياةِ أكبر كبائرها، وشغلهَا الذي لا ننشغل عنهَا بشاغل، وتشب الروح متى ما وجدت صداقة لا كلفة فيهَا ولا استهلاك للنفسِ يجعلها جرداء، فتتبرج من نزعة الألم كالمقبلِ على الشقاء، وليس في الصداقةِ مسافات فإن كان أحدهم فِي المشرق والشِطر الآخر في المغرب، فالبعد بعد حقيقة في فحواه الكنايةِ والمجاز! 

"الصديق وقت الضيّق" 
نرددها صباح، مساء، وناموس المعنى غائبًا، ونلقيها وشعورنَا منزوي كأنها لا معنى لهَا، كالمصباح المنطفئ ينتظر من يضيئه؛ ليضيء، فلا ينقصه إلا الوقوف وقت الشدة، حتى تنبعث بوادر النور من سهريجهِ كالسابق! أفهمت أيها الرفيقُ أم أزيدك؟ تدق المسامير في نعش صداقتنا كلما زاد البعد، وضرب الإهتمام بعرض الحائط أمرنا وجاوزَ حالة معينة تقدّرهَا أنت أو أنا، فتبدو ثابتًا وأنت من الوحدة يغمى عليك مِن شدةِ الألمِ، ومعَ الهجرِ يحدثُ كلُ يومٍ سلوة! 

الصداقة، كالحُبِّ، إن قصر أحد الأطرافِ قلة التوازن والانجذاب تجاه الآخر، وكُلمَا سارعت فِي الإهمالِ فستجني حسرة وندامة، فمَتى ما فسدت الصداقةِ وفقدت رونقهَا مرة تلو الأخرى فلن تعود كما السابق

لا تحزن إن لمْ تجد روحك التي تبحث عنها في الصداقة، فتظل حكمة الله مطوية في ظلمات الغيبِ لا يتنوّرها إلا من رضيَ بوحدته البائسة، وفِي قلبهِ نور الحكمة يؤنسهُ، إن قست عليه دُنيَا الفنا وكتمت في نفسك طويلًا، وإن من تتمنَّى أن تُفضي إليهِ مَا زَالَ في طيّات الزمنِ مندثر، فلا بأس، يؤخرهم لعلةٍ عقلك قاصر عن إدراكها، من يجولونَ ويصولونَ في الأرض، يُصَادِقونَ كل من يروقوا لهم ساعة فهم أبدًا في حيرة يتخبطونَ، ورؤوسهم تموج بعضهَا فِي بعض. أفِقْ نفسك، وأعلم أنك من حسرةٍ إلى أمل تسير، ومن أملٍ إلى خيبة، ومن خيبة إلى وهم، وإن الصداقة وحدها تحتاج إلى صِفاتٍ نادرة توجد في أنفس الأنقياء الأتقياء الذين لا يحملون بينَ أضلعهم سوَى قلب نابضٌ بالحب لا يعرف للغلِ والحسدِ طرقات تفضي إليه! 

تذكّر أن:
الصداقة، كالحُبِّ، إن قصر أحد الأطرافِ قلة التوازن والانجذاب تجاه الآخر، وكُلمَا سارعت فِي الإهمالِ فستجني حسرة وندامة، فمَتى ما فسدت الصداقةِ وفقدت رونقهَا مرة تلو الأخرى فلن تعود كما السابق، أيعود الماء بعد ما ينزل من الشلالِ متدفقًا إلى العلوِّ ثانيةً؟ كلّا. 

إن صادقتَ؛ فحب، وابذل، واهتم، وجاريَ اللحظةِ فما فاتَ فات، وما هو آتٍ فلن يُخطِئ طريقك، ولا تترك نفسك للوحدةِ والحسرات تنازع بعضها بعضًا من كمد الواحدةِ يستلمُكَ بؤسِ الحياة، فالصداقة مِنا ونحن منهَا حتى لو عِشنا نتمنّى ممارستها مرة بعد تجارب فاشلة!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.