شعار قسم مدونات

قبلت تحدي الأمومة

blogs الأمومة

لم يخبرني أحد من قبل بكل هذا! أدركت في ذلك اليوم أن الأمر مختلف كليا وأن كل ما وصف وقيل عن الأمومة لا يشبه إطلاقا ممارستها. في ذلك اليوم فقط أدركت حجم التحدي وصعوبة الموقف عندما رفعت هاتفي لأتصل (بخالي) طبيب الأطفال المرموق أشكو له من صغيرتي؛ أنها تبكي باستمرار فماذا أفعل؟ رد يومها بحزم: "سلمى أنا طبيب أطفال مش مربية، اعرفي مفتاح بنتك، حلي لغزها هو دا دورك، الطفل الرضيع عبارة عن لغز وأنتِ عليك حله".

أغلقت سماعة الهاتف في حالة من الصمت لبضع ثواني؛ ثم نظرت إلى صغيرتي وانهرت في البكاء وهي بين أحضاني مردده: "وأحله إزاي اللغز دا؟ يعني أعمل ايه علشان يحصل ايه؟!". فطالما استيقظ زوجي في جوف الليل علي صوت بكائي لا بكائها ليحملها عني ويدعوني للنوم قليلا في تلك اللحظات فقط كنت أخلد إلى نوم عميق. كانت كلمات خالي تتردد على مساعي كلما وجدتها تبكي وأنا عاجزة أمامها عن فهم سبب البكاء وبالتالي عاجزة عن إيجاد حل لتهدئتها. 

مرت تلك الشهور مرور السنين الثقال حتى جاء ذلك اليوم التي بكت فيه صغيرتي فأسرعت لتلبية احتياجها، فسمعت تعليق المحيطين المتكرر: "ايه دا انت فهمتيها ازاي كدا!" عبرت تلك الجملة على مسامعي عبور النسيم العليل ليشفي صدري ويريح قلبي، في تلك اللحظة شعرت بنشوة انتصار -لم أشعر بها عندما سمعت رئيس القسم يقول نوصي بمنح الطالبة سلمى كمال شلتوت درجة الماجستير في علوم النبات-. وقتها رددت في سري بكل حماس لقد فعلتها نعم فعلتها لقد حللت الشفرة عرفت مفتاح اللغز، ولكن لحظة، كيف ومتى؟ وأين؟

الله وحده أعلى وأعلم؛ عساها تلك الدعوة في تلك الليلة البائسة أو تلك المحاولات الفاشلة والغير يائسة لإدراك ذلك اللغز الغير الناطق، أو دعوة أمي أو صبر زوجي. بفضل الله ثم نصيحة صادقة استطعت اجتياز أول تحدى لغريزتي الفطرية المسماة الأمومة.
 

دق التحدي الثالث أجراس حياتي مداعبا كينونتي، مستفز لقدراتي متحديا إرادتي، ممتعا لذاتي وهو أن أكون أم مختلفة لطفلتين مختلفتين متمردة على كل الثوابت المجتمعية معانده لتثبيط العاديين من حولي مصره على أن تكون بصمتي هي الأكثر إشراقا

لابد أنه أدرك أنه كان قاسيا في تلك المكالمة! هكذا حدثت نفسي عندما وجدت خالي يحادثني بعدها بأيام أسفرت المكالمة عن نصيحة جديدة: "التربية يا سلمى عبارة عن تلت محاور مالهمش رابع: الصبر، القدوة، الدعاء" وكرر الدعاء ثلاث مرات احتفظت بكلماته في ذاكرتي لحينها.

بعد أن أنهيت التحدي الأول وجدتني أصطدم اصطدام المحارب الذي انهكته شراسة المعركة بخبر قدوم صغيرتي الثانية بفرق عام واحد. وجاءت صغيرتي الثانية لأصبح أم لطفلتين وزوجة لرجل شرقي محب يسعى دائما ليشاركني البصمة وطالبة دكتوراه، التحدي هذه المرة كان له طعم مختلف المذاق وأركان جديدة. أدركت منه منذ اللحظة الأولى ما أدركت وفشلت في الآخر واجتهد في الباقي. انتهى التحدي الثاني بفطام الصغيرة الجديدة وعبورها لعالم أختها لتصبحا كالظل لبعضهما.

دق التحدي الثالث أجراس حياتي مداعبا كينونتي، مستفز لقدراتي متحديا إرادتي، ممتعا لذاتي وهو أن أكون أم مختلفة لطفلتين مختلفتين متمردة على كل الثوابت المجتمعية معانده لتثبيط العاديين من حولي مصره على أن تكون بصمتي هي الأكثر إشراقا في روح زهرتيّ الأنيقة وفطرتهما السليمة بالأصل.

كان هذا حديث نفسي الذي بدأت به خوض هذا التحدي المستمر، لم أكن أعلم كيف السبيل غير أنى كنت مؤمنة بحقي في التحليق خارج السرب على أن أجد ضالتي في رحلة الأمومة الشيقة والشاقة بطبعها.

زاد التحدي تحديا عندما شاء الله أن أكون إحدى أمهات هذا الجيل وأن أعاصر هذه الموجة غير معلومة الهوية من المصطلحات الجديدة عن عالم الأمومة بكل أركانه تنوعت المصطلحات ابتداءا من single mother مرورا ب super mama وأم معلمه منزليا ثم الدخول الي مصطلحات التربية والتعليم كالتربية الإيجابية والتربية الروحانية والتربية الجنسية والتعليم المرن والتعليم المنزلي والمبكر والموازي والمنعكس والمنتسوري والذي اختلط الأمر فيه لمزيد من (السبوبة) هل هو منهج دراسي أو أنه أسلوب حياة أم وسيلة للتربية أو أدوات للتعليم.

قبلت التحدي منذ اللحظة الأولى وحزمت أمتعه عقلي وروحي متجولة بين كل تلك المصطلحات عن طريق القراءة والدورات سواء بالحضور المباشر مع أكبر الأسماء المطروحة على الساحة وأبسطها، أو بالحضور عبر شبكات الإنترنت دورات مسجلة أو بث مباشر.

وجدت في تلك الرحلة ما أرضى أمومتي ووجد كذلك النقيض تماما، بدأ الأمر بسيطا ممتعا وإنساني وسرعان ما تحول إلى صيحة من صيحات الموضة الفكرية عابثا بصرح الأمومة وسلامة فطرته، عندما تحول إلى مصدر غني للشهرة وجلب المال والذي اعتبر بدوره الأمومة مهنة لإرضاء طموحات الذات وبات الأمر ملتبس على الكثيرات مربكا للأغلبية طارحا سيلا من الأسئلة على كل أم مهتمة بكونها أم عاشقه لذلك.
 

لا تفكري في أي شيء لطفلك قبل العامين أي عمر الفطام، كل ما يحتاجه صغيرك هذه العلاقة الروحانية الخاصة وهذا الحوار الصامت العميق، وذبذبات صوتك تداعب مسامعه بدندنات من الذكر أو الإنشاد، وتلك النظرات الطويلة المتبادلة والقاصدة بؤرة عينه

من أين أبدأ؟ بماذا أبدأ؟ هل أنا أم صالحة كوني لست أم معلمة منزليا؟ من أستشير؟ من أين لي بكل هذه الأموال الطائلة لكي ـحصل علي استشاره مجرد استشارة؟ ماذا أقرأ ولمن أقرأ؟ سأرتدي الآن قميصي الواقي من الرصاص لكي أحاول أن أجيب عن بعض تلك التساؤلات التي مررت بها بطبيعة الحال والتي ستأتي بما لا يهوى أصحاب تلك الصيحات الفكرية والابتزاز المادي المعنوي باسم الأمومة؛ صديقتي في رحلة الأمومة إن كانت الأمومة غريزة في الأنثى منذ ولادتها ولكنها أيضا مهارة تحتاج إلى تعلم علي يد خبير أمين أكثر منه مختص يسعى لجني المال أو حتى هاوي، وقد يكون الخبير أم، خالة، عمه، جده، جارة. تذكري أنني قلت خبير أي أنه خاض التجربة وجنى ثمارها أمام عينك وارتضيتها لذاتك، من وجدتي فيه هذا فلتتخذيه خليل في رحلة أمومتك.

لا تشتري أمومتك؛ بمعني أن لا تستمعي لأي نصيحة بمقابل مادي فإنه عين الابتزاز والعبث فهناك فرق بين النصيحة اليومية أو الحياتية وبين الاستشارة الطبية النفسية أو العقلية، وبين الدورة التدريبية والتي تعني أن تكتسبي من خلالها مهارة جديدة علي يد خبير محترف أمين.

لا تفكري في أي شيء لطفلك قبل العامين أي عمر الفطام، كل ما يحتاجه صغيرك هذه العلاقة الروحانية الخاصة وهذا الحوار الصامت العميق، وذبذبات صوتك تداعب مسامعه بدندنات من الذكر أو الإنشاد، وتلك النظرات الطويلة المتبادلة والقاصدة بؤرة عينه وهو بين أضلعك أثناء الرضاعة. بعد العامين سيأتي التحدي الأقوى الاطلاع علي أجدد الصيحات الفكرية في جيلك واستخلاص الخيوط الأنسب لك ولقدراتك وطموحاتك لترسمي بها خريطة السير في رحلتك مع طفلك. ما وجدته أن كل النظريات والفلسفات المطروحة تقودنا إلى نفس الثلاثية الذهبية التي أهداني إياها خالي "القدوة، الصبر، الدعاء" وقبلهم فك الشفرة.

وأخيرا أحب أن أقول مذكرة نفسي؛ لن يصاب ابنك ذو الشهور الأولى بالسلولح إن لم تضعيه على تلك السجادة ذات الشخاليل الملونة، "والله يا أختي ما هيحصله حاجة لو حطتيه على الأرض ونطورتي حوالية شوية شخاليل أم جنية ونص" (نصيحة أمي الغالية). اقبلي التحدي باستمتاع وعيشي تجربتك بكل مغامراتها واستكشافاتها اطلعي على كل جديد دون أن تسمحي ببتزازك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.