هل تتخيلون الشام التي يتخطفها القتل من كل جانب، متفرغة للحكواتي والقهاوي وبيع الكلام الفارغ.. نعم! لكن في هذا الزمان العصيب، لن يلجأ الشباب إلى "القهاوي" باهضة التكلفة مملة الجلسات، وكيف يسهرون في القهاوي، ويتسكعون في الشوارع، والبلاد في حرب مسعورة لا تتوقف ولن تتوقف، وكيف يدفعون فاتورة القهوة في هذا الفقر المدقع، والعوز المركع، والخوف المفزع، والبؤس المفجع، إن وعيهم يمنعهم، وتمدنهم لا يحضهم على ذلك.
التف الشباب المؤمنون حول مشايخ الهزيمة، يبيعونهم ما يحتاجونه من الإرجاء النظري والسلوكي، يحدثونهم عن الاستسلام والسلامة والعافية، يعلمونهم أحكام الاستسقاء والسماء تمطر البراميل، والناس بين جريح وقتيل. |
لذلك لجأ أبناء بردى، أبناء العاصمة الدمشقية، أبناء الياسمين، إلى حكواتية المساجد، ومهرجي الوعظ. لكن للأسف تحلقوا في المساجد، ليستمعوا إلى حكواتي استبدل العمامة بالطربوش والقنباز بالجلباب، وقول الشيخ العارف فلان بكان يا ما كان. إنه العارف بالله كما يدعي هو، الجاهل بخلق الله كما أدّعي أنا، أحقر من ترى وأفقر بني الورى، كما يصف نفسه أمام الجماهير المبجلة والموقرة لجلالته.
التف الشباب المؤمنون حول مشايخ الهزيمة، يبيعونهم ما يحتاجونه من الإرجاء النظري والسلوكي، يحدثونهم عن الاستسلام والسلامة والعافية، يعلمونهم أحكام الاستسقاء والسماء تمطر البراميل، والناس بين جريح وقتيل، ويعطونهم في المتون توكيلا وإجازة، ويعلمونهم أحكام النكاح والجازة، وهم أحوج لأحكام الجنازة، لكن النفوس إذا فترت كانت إلى الضعة أميل وإلى الراحة أحوج.
بأسلوبه الظريف ودمه الخفيف وثوبه النظيف، يجلس الحكواتي على منبر رسول الله، ويجتمع حوله طلاب العلم في زمن العمل، الهاربون من حواجز النظام التي تقطع أوصال العاصمة، المحتجزون في حاراتهم، مفتولو الشوارب والعضلات لا قضية شرف يدافعون عنها، ولا قوات أجنبية تحتل بلادهم، ولا طائفية بغيضة تحارب معتقداتهم، نسوا ذلك كله وجلسوا في بيت الله يتدارسون فرعيات الفقه، ويتجاذبون أطراف الحديث، وإبليس قاعد عما نهضوا فيه فقد كفي مؤونتهم.
إن طهارة دم البعوضة أو نجاستها، ليست إشكالا معرفيا، الإشكال المعرفي هو طهارة دم أطفال إدلب، عندما يتوضأ أطفال خان شيخون بالسارين، لا تحدثني يا حكواتي الشام عن نواقض الوضوء التي أعرفها، عندما يموت الناس من البرد والجوع في المخيمات، لا تحدثني يا حكواتي الشام عن التكافل الشعوري في رمضان، دعني أرى مشاعرك تجاهي قبل أن أسمع كلماتك.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.