شعار قسم مدونات

مذكرات مغتربة

blogs - مذكرات
في أن تكون مغترباً عن الأهل تارة، وعن البلاد تارة، وأن تعيش معلقاً بين هذه وتلك. كنتً أنتظر لحظات إتمام دراستي الجامعية بشغف المشتاق لأهله، وملل اليائس من غربته أو جدوى شهادته الجامعية التي لن تسمن أو تغني من جوع. كلّ شيء مرّ سريعاً..
 
ابتدأتُ هذه الرحلة بغربة وأنهيتها بغربة أخرى. كنتُ في بداياتي أقول: أنا من جماعة المغتربين عن البلاد. وبعد إقامتي في البلاد بشهورٍ عديدة وقد ألفتُ نظام عيشها، أصبحتُ من المحسوبين على سكّانها، سكّان الأرض التي أعشق وأشتاق لها دوماً، ولكن بين أناسٍ لا أنتمي إليهم بعادات أو فكر أو ثقافة.

أصبحتُ مغتربة بطريقة أخرى، غربة فكرية، لا أنا هنا ولا هناك، لا أنتمي للمجتمع بينما أنتمي لأرضه، ولا أنتمي للبلاد التي ألفتها خلال سنين إقامتي مع عائلتي، فنحن هناك أجانب لاريب، مقيمون عليها بشكلٍ مؤقت حتى تنتهي عقود عملنا مع الحكومة. كنت أتنقل بين البلدين حاملةً معي أشواقي وأحزاني، شوق الملهوف لتقبيل رأس أمِه وأبيه وإعادة أيام السمر مع صحبه وذويه، وحزن المُفارق لبلاده، بلاده التي ما فتئت نار الشوق تضرم طوال سنين الاغتراب عنها وحتى بعد ولوجه إياها بعد غيبة 9 سنوات ونيف!

قدمتُ إلى بلادي لا أحمل سوى أحلامي وطموحاتي ورغبةً جمّةُ بأن ألتصق بأرضها، أن أُتوارى تحت ترابها، أن تعتصرني كأمٍ تتلقفُ وليدها بعد حفلة قصفٍ صخبةٍ على ديارها.

كل شيء مر سريعاً، لازلت أذكر يوم أوقفتنا اليهودية على الجسر حين قدِمتُ وعائلتي رغبةً بالالتحاق بالجامعة، استهجنتْ عدم وجود تصريح خاص بي وأنا بهذا العمر، أشارت لي بأن "لا دخول لك"، ويلاه، حينها زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر. لن أنسى تمنُنَها وقومها علينا حين سمحوا لنا بالدخول بعد ذلك. ورأيتُك يا بلادي، وتنسمتُ هواكِ، ولسعني حرُّكِ وبردك، وتوسدتُك في وحدتي، وتآنستُ بكِ، وكرهتُ كلّ من رماكِ وراءه، جاحداً عطائك، متأملاً خيراً ممن سواكِ..

أكتب الآن، وأنا في طريقي إلى رام الله، وقد مررنا بدوريات التفتيش ومرت بنا الجيبات الإسرائيلية ومن خلفها مواكب السيارات ذات النُمَر الصفراء على جانبي طريقٍ مرفوعة عليه الأعلام الإسرائيلية، لم أحدثكم عن هذا الطريق، عن جباله الشاهقة وسهوله التي تبرز على طولها البيوت، بيوت الفلاحين غالباً، فمروجهم الخضراء من أمام السهول ماتزال حديثة الحصاد.

تجلت أرواحنا لدى رؤية هذه الجبال والسهول تلوح لنا بخضارها وزينتها وأشجارها المترامية، تحيينا، تدنو وتنأى، تتراقص بخفةِ لاعبة باليه. يا الله، يأسرني هذا المنظر جداً. إلى الأمام قليلاً، توقّفنا على مفرق طرق ننتظر الإشارة الخضراء، وعلى يميننا سائقُ فلسطيني في منتصف الثلاثينات يستمع ويستمتع بأغاني المقاومة، متجاهلاً نقاط التفتيش قبلنا وبعدنا، أطلقتُ تنهيدةً طويلة، يا لهؤلاء.

أرى في هذا السائق شعبي الذي لا تعرف له قراراً، شعبي المقاوِم، المشتكي من قلة الأمان وشظف العيش، الرافض للأعمال المقاوِمة لأنها تجرّ الشباب إلى معركة محسومة النتائج مع الأطراف الأقوى دائماً، الشعب الذي إن فقد ابناً أو أخاً ظلماً وبهتاناً على محسوم أو في أسر، يهب غضباً متناسياً تنظيراته حول المقاومة قبل هذه الحوادث اليومية. يا لهذا الشعب! عرفته في سنيني الأولى مسلِّماً مستسلما بائسًا، وفي سنيني التالية منتفضاً غاضباً وناقماً، يثور ويخبو، كثير التنظير، وكثير المعارف، وكثير إطلاق النكات في عز الأزمات.

أكتب الآن، وأنا في طريقي إلى رام الله، وقد مررنا بدوريات التفتيش ومرت بنا الجيبات الإسرائيلية ومن خلفها مواكب السيارات ذات النُمَر الصفراء.

تُشارف سنوات الدراسة على الانتهاء، بعدما أخذت مني ما أخذت، بعد أن غربلتني نفسياً وقلبياً وفكرياً، بعد أن أعطتني دروساً ربما لو مكثتُ بجوار عائلتي كنت بالكاد أتعلمها، بعد أن سحَبَت من أسفل منيّ أرضيَ الثابتة، التي كنت أطلق أحكامي منها وأبني أفكاري عليها، كل شيء تغير الآن، حتى تلك التجارب العنيفة التي خضتها هنا، حتى لحظات الفقد والرحيل التي كسرتني، كلّها هدّمتني وأعادت بنائي من جديد.

كل شيء مرّ سريعاً، قدمتُ إلى بلادي لا أحمل سوى أحلامي وطموحاتي ورغبةً جمّةُ بأن ألتصق بأرضها، أن أُتوارى تحت ترابها، أن تعتصرني كأمٍ تتلقفُ وليدها بعد حفلة قصفٍ صخبةٍ على ديارها. لم تُبقِ هذه الغربة حلماً إلا وكسّرته بأنيابها، ولا طموحاً إلا وأخفضت سقفه من الثريا للثرى. ومع ذلك، تبقى رحمة الله ويبقى لطفه مُنجّياً وملجاً لي ما حييت.

ماذا بعد أن أنهيتُ دراستي الجامعية؟ الجميع يتساءل، يحسبون الأمر هيّناً، قراراً سهلاً، كلمة مارقة، أعودةٌ لأحضان العائلة التي بفضل صبرها ودعمها لي فقط كنتُ وأًصبحتُ وواصلتُ مسيري، أو بقاء في الأرض التي عشقت؟ كلاهما مر يا قومي، كلاهما اغتراب، وكأن الغربة أصبحت أسلوب حياةٍ لدي، يبقى عليّ فقط أن أختار عمّن سأغترب، وبعد الاختيار، علي تحمُّل النتائج وحدي، بمخسرها ومربحها، كما كنتُ أفعل خلال السنوات الأربع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.