شعار قسم مدونات

الإخواني جمال عبد الناصر!

جمال عبد الناصر

جاء "وحيد حامد" مؤلف مسلسل "الجماعة" يكحلها فأصابها بالعمى. واحتشد لينال من الإخوان المسلمين، فجعلهم في الجزء الثاني من مسلسله الذي عرض في رمضان هذا العام، محور الكون، بدلاً من أن يكونوا فقط محور هذا العمل الفني. وسعى لإغضاب الإخوان فلم يكترثوا به، وأغضب الناصريين، الذين اعتبروا أن المسلسل موجه للنيل من زعيمهم "الأوحد"!

مسلسل "الجماعة" بدأ فكرة، ضمن ما وصفته في حينه بحملة الإبادة الإعلامية للإخوان، التي كانت تستهدف تشويه الجماعة، بعد نجاحها في برلمان سنة 2005 في الفوز بـ (88) مقعداً، مما أقلق السلطة وأعوانها يومئذ، و"وحيد حامد" ليس من نوعية كتاب الدراما، الذين يجهدون أنفسهم في تقديم رسائلهم بشكل غير مباشر، فهو يميل إلى "المباشرة"، وحتى إن اضطر إلى تقديم "حسن البنا" على غير حقيقته، فقد جاء في مسلسله عصبياً منفعلاً طوال الوقت، والذين عاصروه يجمعون على أن شخصيته هادئة وليست انفعالية!

لقد سئل "وحيد حامد" بعد الثورة، إن كان سيقدم الجزء الثاني من "الجماعة"، فكانت إجابته توحي بأن الدوافع وراء المسلسل قد انتهت. فلم يكن هناك، على الأقل في الشهور الأولى للثورة، من هو على استعداد لفتح الدفاتر القديمة، فحتى "رفعت السعيد" رئيس حزب التجمع، الذي لم تكن له "شغلة ولا مشغلة" سوى الهجوم على الجماعة، قبل الأكل وبعده، فوجئنا به وقد ذهب مع المهنئين للجماعة بافتتاح مقرها الرئيس في منطقة المقطم، وكان من بين الذين ذهبوا، نائب رئيس جهاز مباحث امن الدولة الأسبق اللواء "فؤاد علام"، الذي اتهمته الجماعة في وقت سابق بقتل القيادي بها "فؤاد السنانيري" في السجن، والذي تقول أنه لقى حتفه من جراء خضوعه للتعذيب الذي مارسه "علام "بيده، بينما تقول الرواية الأمنية أنه انتحر!

الثابت تاريخياً أن "جمال عبد الناصر" كان عضواً في النظام الخاص للجماعة، وقد بايع على المصحف والمسدس، في حجرة مظلمة، وهو التقليد الذي كان سائداً عند الانضمام للتنظيم، وعلى السمع والطاعة وفي المنشط والمكره

وقد استقبل المتهم بالقتل على الرحب والسعة، في زيارة "التعميد" لمقر مكتب الإرشاد، وقد ظن أصحابه أنهم فتحوا مكة، عندئذ وجب الصفح الجميل، فمن دخل مكتب الإرشاد فهو آمن، فاتهم أن مكة لم تفتح، وأننا بحاجة إلى دراسة الرواية الخاصة بفتحها كاملة، فهى تدرس في المدارس، وتروى على المنابر ناقصة، حيث تتم إهاجة العواطف الجياشة لمن يسمع الخطبة، أو يقرأ الرواية، ولا ذكر لمن صدر الأمر النبوي بقتلهم ولو تعلقوا في أساتر الكعبة، فنحن ضحايا الروايات غير المكتملة، والتي يتم إنزالها على واقع مختلف، فلا الإخوان فتحوا مصر، ولا المتهم بالقتل يجوز معه الصفح، لأن "كمال السنانيري"، وإن كان قيادياً بالجماعة، فإن ولي الدم ليس هو المرشد العام للجماعة، أو أعضاء مكتب الإرشاد، ولكن من بقي من أبنائه وأحفاده على قيد الحياة!

ما علينا، فقد ثبت في الوقت الضائع، أن الجماعة لم تفتح القاهرة بافتتاح مقر لها  وقد حضر حفل الافتتاح وزير الداخلية، فعندما وقعت الواقعة في 30 يونيو، كان "فؤاد علام" هو من استقبل وفداً من الوجهاء، كتبوا بيانا صبيحة هذا اليوم وقبل حضور الحشود، يطلبوا الجيش بالتدخل، ويمثلوا غطاء مدنياً للانقلاب العسكري. وهو ما اعترفت به منى مكرم عبيد، ولم يكن أمام الراحل "سعد هجرس" أحد الحاضرين إلا أن يؤمن على كلامها فقد كانا – هو وهى – على الهواء مباشرة، في استوديو "الجزيرة مباشر مصر"!

ثم إن "فؤاد علام" كان يدير وزارة الداخلية في الأيام الأولى للانقلاب، رغم أنه على التقاعد منذ أكثر من عشرين عاماً، لأنه خبير أمني في ملف الإخوان المسلمين، وقد كان ضابط مباحث أمن الدولة المكلف بالتعامل معهم في عهد السادات، وحتى السنوات الأولى من عند مبارك، وكان يطمع أن يترقى رئيسا للجهاز، إلا أن وزير الداخلية زكي بدر، أطاح به وعينه مديراً لأمن بور سعيد قبل أن يحيله للمعاش، فيتحول إلى خبير في شؤون الجماعات الإسلامية، وقد ورد ذكره في كتاب "البوابة السوداء" لأحمد رائف، كأحد جلادي المرحلة الناصرية!

ولم يكن أحد بعد الثورة، يتحدث عن الإخوان باعتبارهما جماعة محظورة، فمن كانوا يقولوا هذا الكلام، جاءوا لخطب الود، والتقرب زلفى، ولم يكن من الطبيعي أن يكتب "وحيد حامد" الجزء الثاني من مسلسله "الجماعة"، لكن بالانقلاب العسكري، ومطاردة الإخوان "بيت بيت.. زنقة زنقة"، عادت "الفرقة الموسيقية" لتعزف نفس النغمة، ومن الطبيعي أن يكتب "وحيد حامد"، وتنتج شركة الإنتاج، وتتبارى القنوات الفضائية في شراء العمل وعرضه، لكن "الطوبة جاءت في الساق المعطوبة"، فانشغل الناصريون بالهجوم على المسلسل وعلى كاتبه، بينما لم يكترث الإخوان، فقد جاءهم ما يشغلهم!

لقد هاجم الناصريون "وحيد حامد" واتهموه أنه أساء لزعيمهم جمال عبد الناصر، بالقول أن كان عضواً في جماعة الإخوان المسلمين، واتهموه بالتالي بتزوير التاريخ، فهل يعقل أن الناصريين لا يعرفون فعلاً أن عبد الناصر كان عضواً في الجماعة؟!

علاقة عبد الناصر بالإخوان تلقي بظلالها، على النظرة إلى تنظيم الضباط الأحرار الذي قام بانقلاب يوليو سنة 1952، فيعتبر البعض العضوية في النظام الخاص دليلاً على تبعية تنظيم الضباط إلى الجماعة، وهذا ليس صحيحاً

الثابت تاريخياً أن "جمال عبد الناصر" كان عضواً في النظام الخاص للجماعة، وقد بايع على المصحف والمسدس، في حجرة مظلمة، وهو التقليد الذي كان سائداً عند الانضمام للتنظيم، وعلى السمع والطاعة وفي المنشط والمكره، وكان قسمه أن يدافع عن فكر الجماعة ومعتقداتها!

وفي نفس اللحظة التي فعل فيها هذا، كان عبد الناصر عضوا في التنظيم الشيوعي "حدتو"، بل كان أيضاً عضواً في حزب مصر الفتاة، على النحو الذي جعل مؤسسه "أحمد حسين" عندما علم وهو في السجن بتهمة العيب في الذات الملكية، بأسماء من قاموا بانقلاب يوليو، ظن أنهم أبنائه، وتصرف على هذا النحو، وأخذ يعطيهم النصائح، وضرورة عودتهم للثكنات، وكان لابد من درس فعله عبد الناصر مع كثيرين من المقربين منه، ومنهم الكاتب إحسان عبد القدوس، فقد سجن "أحمد حسين"، كما سجن "إحسان" صاحب رواية الأسلحة الفاسدة في حرب 1948، وفي حملة صحفية نشرتها مجلة "روزا اليوسف"، وهى الحملة التي استخدمت كغطاء لتبرير حركة ضباط الجيش، وكان "ناصر" يزور إحسان في مكتبه قبل الحركة، وكان طبيعياً أن يخاطبه بلقب "جيمي"، لكن بعد السجن قال له: "سيادة الرئيس" فتنفس عبد الناصر الصعداء، وشعر بالارتياح، وهو يقول في لحظة انتصار: "لقد غيرك السجن كثيراً يا إحسان"!

كان الزعيم أحمد حسين يُسجن في العهد الملكي في سجن الأجانب، المقر الرئيس لنقابة المهندسين بالقاهرة بشارع رمسيس الآن، حيث يعامل بما يحفظ له كرامته، حتى وإن كانت التهمة الموجهة له هى العيب في الذات الملكية، لكن عندما سجن في العهد الناصري، بهدف إيصال رسالة له أن يتوقف عن دعوته بعودة الجيش لثكناته، ولدفعه لنسيان قصة تلاميذه الذين قاموا بحركة ضباط الجيش، تعرض في سجنه للاهانات البالغة، ومن عساكر صغار، ولولا أن التعذيب صار سمة هذا العصر، لقلت إن ما تعرض له كان متعمداً، وشعر الرجل أنه لا يواجه ملكاً، ولكنه يواجه ثلة من المنحطين أخلاقيا، فاعتزل العمل السياسي!

علاقة عبد الناصر بالإخوان تلقي بظلالها، على النظرة إلى تنظيم الضباط الأحرار الذي قام بانقلاب يوليو سنة 1952، فيعتبر البعض العضوية في النظام الخاص دليلاً على تبعية تنظيم الضباط إلى الجماعة، وهذا ليس صحيحاً، فقد أسس عبد الناصر تنظيمه بينما كان عضواً في الجماعة وفي الحزب الشيوعي "حدتو"، وحزب "مصر الفتاة"، ولم يكن أحد في أي تنظيم يعرف بحقيقة عضويته في التنظيمين الآخرين، وما طلبه من المرشد العام للجماعة "حسن الهضيبي" هو "التعاون" لكن قبل قيام الحركة، أوصل رسائل للمرشد أنه يريد أن يستقل بالتنظيم عن الجماعة حتى يمكنه ضم ضباطاً وطنيين ليسوا أعضاء في الجماعة وربما غير مسلمين، ولما علم المرشد العام بأن هذه رغبته وافقها عليها، وترك الضباط الإخوان أعضاء في تنظيم الضباط، وكان الضابط الاخواني عبد المنعم عبد الرؤوف هو همزة الوصل بين الجماعة والتنظيم!

وعندما نجح الانقلاب، فقد عمل عبد الناصر على السيطرة على الجماعة، وعندما فشل مشى بين قياداتها بالنميمة لأنه يعرفهم جيداً، وقد استغل حالة النفور التي تملكت القاضي السابق الهضيبي من فكرة وجود "نظام سري بالجماعة"، فأوغر صدر عبد الرحمن السندي قائد النظام الخاص، وحرضه على القيام بانشقاق داخل الاخوان وهو ما حدث فعلا!

واللافت، أن التنظيمات الناصرية، واليسارية بشكل عام، تتهم الإخوان بالإرهاب لأنها أنشأت النظام الخاص، في الوقت الذي كان فيه عبد الناصر ليس فقط عضواً مبايعاً لهذا التنظيم السري، وحسب، ولكن كان ينحاز له في الخلاف مع الجماعة ويحرضه على الانشقاق والخروج على المرشد العام، وربما موقفه هذا وإن هدف لإضعاف الجماعة، فإنه ينفس عن عقدة نفسية، من جراء تعامله السابق مع الهضيبي، والذي كانت شخصية بحكم كونه قاضياً جاداً، تبدو متعالية في تعامله مع الآخرين، فهو ليس الداعية و"المدرس" حسن البنا الذي كان يجلس على الأرض، ويخالط العامة، ووسيلة تنقلاته هى وسائل المواصلات الخاصة بالفقراء، ولم يكن الهضيبي هكذا، والذي سرعان ما اعتقله عبد الناصر وتعرض للتعذيب في سجونه!

عندما سألت أحد قادة "النظام الخاص" في مقابلة صحفية في بداية التسعينات، "أحمد عادل كمال" عن تفسيره لانضمام عبد الناصر لثلاث أحزاب مختلفة فكريا في وقت واحد، قال تفسيراً ربما يرضي الناصريين، ويجعلهم يقبلون بالحقيقة التاريخية وهى أن زعيمهم المفدى كان عضواً بالإخوان، وللتنظيم المسؤول عن كل العمليات الإرهابية، ومن أول قتل القاضي الخازندار، إلى قتل رئيس الوزراء النقراشي، إلى حادث السيارة الجيب!

لقد قال لي "أحمد عادل كمال": لقد كان عبد الناصر يستكشف الحياة السياسية!

أظنها "ترضية" تدفعهم بالتوقف عن الهجوم على "ووحيد حامد"، الذي كان في الجزء الثاني من مسلسل "الجماعة" ينطبق عليه المثل الدارج: "صياد رحت أصطاد صادوني"، فبدلاً من أن يهاجم الإخوان، هاجمه الناصريون وأجهزوا عليه!

ومهما يكن، فهل يعتقد الناصريون فعلاً أن زعيمهم لم يكن عضواً في الإخوان المسلمين، وأنه بايع على المصحف والمسدس؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.