شعار قسم مدونات

مجرّد عنصريّة

مدونات - عنصرية
لم أعد أستطيع تحمّل الحقد المتفشّي في مجتمعي أكثر من هذا الحد، بعدما كنت أقرأ وأسمع عن حوادث العنصريّة التي يرويها بعض أفراد هذا الشّعب ممّن عاشوا في بلاد الغرب وتعرّضوا لها من قبل الرّجل الأبيض، بعدما كانت اعتداءات نحن ضحاياها وقصصا نحن شخصيّاتها صارت الآن واقعا في بلدي للأسف نحن صانعوه وقصصا نحن أبطالها، أعيشها مع هذا الشّعب الذي حال أبيضا بعدما كان مطليّا الأمس بسمرة هذه القارّة وبسمرة غبارها ولو سمرة عقليّة، عقليّة خشنة، جدّ خشنة.

هي الجزائر، بلد الأعراق، بلد راقت فيه الدّماء فاختلطت، وروت أرضا زكيّة فأنبتت فيها سنابل، في كل سنبلة مئة حبة. حبة بيضاء، سمراء وسوداء، وألوان بقدر ما احتوت الثّلاث من درجات، لهجات ولهجات من شرقه إلى غربه ومن جنوبه المنغمس في سواد القارّة إلى شماله المرتوي بمياه المتوسط، "أقلت لهجات؟"، عذرا لا، بل لغات وثقافات، حضارات مرّت وتاريخ وجغرافيا وكل ما يمكن لكلمة بلد أن تحتويه من معنى.

اليوم، بينما يمارس البعض الكرم والعطاء، ويستبشر آخرون بالنّفع والسّخاء، يسقط عدد معتبر من حبّات السّنابل البيض في الحضيض، يسقطون على ذاك التراب الأسمر ويشتكون من ملمسه ورائحته، منكرين أنّه الأصل وأنّه كذلك الفرع، أنّه المنشأ والمُئوي، منكرين الانتساب لهذه القارّة ومتبرئين ممّن انتسب إليها، ناهيك عن التّنكّر للمنتسبين لدين ساوى بين العبد وسيّده، بين الأسود وناعته بالسّود.

صرنا لا نطيق ابتسامة غيرنا، ونعتبرها استفزازا من شخص تميّز عنا فقط بنسبة ميلانين مرتفعة لديه، جعلت من لون بشرته أسودا، شخص يبيت في العراء ويتناول قطعة خبز مع بعض الأرز وقارورة عصير رماه بها عابر بعدما ارتوى.

يعيش اللّاجئون اليوم في بلدي عيشة هناء أفضل من الّتي يعيشها أهل البلد حتّى، نعم عيشة هنيئة، فهم يبتسمون! يبتسمون لأنّهم وجدوا سبيلا لاستهلاك بعض الهواء المجّاني، يبتسمون لأنّهم وجدوا سبيلا للقوت ولو تسوّلا، يبتسمون لأنّهم مرحون، لأنّهم إيجابيّون، لأنهم لا يلقون بالا لما يتفوّه به ذاك الأبيض، هم متحرّرون من كل العقد النّفسيّة عكسنا، هذا الّذي ولّد حملة عنصريّة ضدّهم، ظاهرها فيه الرّحمة وباطنها من قبله العذاب، حملة نادى فيها الطّاهرون المطهّرون بطرد الأفارقة (يتساءل جزائريّ إفريقيّ: "وين يدّيونا؟")، هي حملة يفتخر فيها العنصريّ بعنصريّته وعرقه الذي لم يتم التأكّد بعد من ما إذا كان ذا ثلاث فصوص دماغيّة أو صفر، مفترضا بفخره ذاك دونيّة الأسود المحمّل بما لم يحمله خلق الله كلّهم من حيوان ونبات من أمراض، مؤكدا بفرضيّته تلك دونيته هو.

صرنا لا نطيق ابتسامة غيرنا، ونعتبرها استفزازا من شخص تميّز عنا فقط بنسبة ميلانين مرتفعة لديه، جعلت من لون بشرته أسودا، شخص يبيت في العراء ويتناول قطعة خبز مع بعض الأرز وقارورة عصير رماه بها عابر بعدما ارتوى، استفزاز يولد حقدا وبغضا وعبوسا (هي ليست عنصريّة بل مجرّد تمييز بسبب اختلاف عرقه أو انتمائه)، لا نطيق تحقيقه للسّعادة ونحن بؤساء، لا نطيق جمعه للمال تسوّلا ونحن نكدّ ونسعى لنكون في الأخير في الهواء شركاء (معلوم أنّ فرص عمله منعدمة لأنّه مقيم غير شرعيّ أصلا، وما يشاع عنه حول رفضه العمل اليدويّ افتراء، صدقت نسبة 2 بالمئة منه، تقابلها نسبة رفض أكبر منها بكثير لدى مواطنينا نحن)، لا نطيق وداعته ولا أخلاقه ولا حتّى ممارسته لمعتقده لأنّه حسبنا استخفاف بالعقول، "قلّي واش؟" الغريب أن معتقده هذا مطابق في غالب الأحيان تماما لمعتقدنا، ولا نطيقه بحجة بسيطة هي استعطاف القلوب للظّفر بما تحوي الجيوب، لا علاقة للأمر بالعنصريّة صدّقوني هو مجرّد تمييز كما قلت، العنصريّة الوحيدة الموجودة في هذا العالم توجد بأوروبّا وأمريكا وضحاياها هم العرب والجزائريّون فقط.

صارت معاناة إنسان موضوع سهرة شاي وأرجيلة، صار اللّاجئ من الجنوب إلى الشّمال موضوع نكتنا وحكايانا، صار يتقن نقل المرض بطريقة أبرع من طرق الطّفيليلات النّاقلة له بالفطرة، صار ناقلا للسّيدا ووجب على الجميع تصديق هذا، حقّا كان أو زورا لأنّ المصدر رسميّ جدّا أشاعته .. أقصد إذاعته صفحة إعلانات حب على فيسبوك، ولن يسكت الشّعب عن هذا لأنّ الأفارقة السود مجتمعين ينافسون الآن شرطيّة نقلت المرض لثلاثين زميلا من قبل، وهم بذلك يهدّدون رقما جزائريّا بالتّحطيم. صار الأسود المتسبّب الأوّل في أكوام القمامة الموجودة في أنحاء البلد الأربع منذ الاستقلال عن فرنسا (فرنسا العنصريّة بالمناسبة)، تلك الأكوام الرّواسي الّتي صارت جزءا من خرائط غوغل، ومعالما يهتدى بها في الطّريق.

لم أتوقّع أن يصل إلى هذا الحدّ من الحقد والكره والتّذمّر الّذي صار ينافس ذاك لدى المجتمعات الأوروبيّة على العرب والمسلمين، ما نعيشه يوميّا يثبت أنّها مجرّد عنصريّة شديدة.

آخر حادثة عشتها كانت بداية العشر الأواخر من رمضان، مستقلا حافلة عمومية بمدينة أنا غريب عنها، مشادّة كلاميّة بين شاب وكهل مشى الشّيب في رأسه يشتكي من الأفارقة السود الذين أزعجه وجودهم وكثرتهم على حد قوله، على متن الحافلة طالب إفريقي لم يع شيئا واكتفى بالابتسامة، تمادى الكهل في السب وحتى في سب الشاب الذي عارضه، تدخّلت للتّهدئة ولم أتمالك نفسي فهدّدته بالضرب، علم أنّني غريب من اختلاف لهجتي شتمني وبادلني التّهديد ونزل في الموقف التّالي..

ركب آخر ومن حسن حظّ الإفريقيّ كان الرّاكب الآخر حقودا أكثر من الأول، جلس وترك مكانا بينه وبين الأسود وضع به كيسا، حدث شيء ما لم أره فنعته الكهل بالـ "خامج" (الوسِخ) وانهال عليه بوابل من العنف اللّفظي، لم أفهم ما جرى واكتفيت بالتّهدئة كذلك، أجلست الإفريقيّ أمامي وحدّثته فأخبرني أنّ شيئا ما كاد يقع من أكياس الكهل فحمله له، وشهد على ذلك راكب آخر، كان هذا طالبا ذا ثياب جميلة يحمل هاتفا وسمّاعات، حاولت أن أتخيّل لو أنّه كان متسولّا، شعرت حينها بحجم الظّلم والعنصريّة المقيتة التي يعيشونها ويتعايشون معها يوميا، وشعرت بالسّوء الّذي يشعرون به. قبلها، حدث أن عايشت 3 حوادث أخرى تكلّمت عنها في فيديو سابق، كانت في ظرف شهر واحد وفي مناطق مختلفة، ضحاياها كانوا حتّى أطفالا متسوّلين.

أخيرا، الأمر يتجاوز المعقول ولم أتوقّع أن يصل إلى هذا الحدّ من الحقد والكره والتّذمّر الّذي صار ينافس ذاك لدى المجتمعات الأوروبيّة على العرب والمسلمين، حاولت إقناع نفسي أنّها مجرّد حوادث ستزول، مجرّد استثناءات، مجرّد "عدم-عنصريّة" بل "كلمة حقّ وعدل" كما يدّعون، ولكنّ ما نعيشه يثبت العكس تماما، ما نعيشه يوميّا يثبت أنّها مجرّد عنصريّة شديدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.