شعار قسم مدونات

ابتعاث الذات في فلسفة إقبال

blogs مكتبة
لا تبدأ سعادة الإنسان وفاعليته وتأثيره في إلّا عندما يبحث عن السعادة في حدود ذاته وداخله، ليفيض بها روحاً معطاءة للخير والنور في قلوب العالمين. إنّ كثيراً من تفاسير السلوك الإنسانيّ تدور حول دوافع البحث عن الذات وإثبات الذات. وهو ما كان يدندن حوله فيلسوف الإسلام محمد إقبال.. نحاول أن نقتبس من بعض وميض النور الذي انبعث من شعره الربانيّ الحكيم، وهو يحاول أن يعيد للمسلم ذاته السليبة المقهورة تحت وطأة الحضارة الماديّة الخادعة التي سلّعت الإنسان، وحوّلته إلى آلة صمّاء فاقدة الإحساس، وهو يريد ابتعاث المسلم من بعد موات، لينفث في روعه روحاً جديدة.

يتحدّث إقبال عن شيخه جلال الدين الروميّ، الذي كان مهتمّاً ببعث الذات الإنسانيّة، جاهداً في اقتناص النجوم والعنقاء من معادن الرجال، فيقول:
– رأيت البارحة شيخاً يدور حول المدينة، وقد حمل مشعلاً، كأنّه يبحث عن شيء، قلت له:
– يا سيدي! تبحث عن ماذا؟
قال: مللت معاشرة السباع والدواب، وضقت بها ذرعاً، فخرجت أبحث عن «إنسان» في هذا العالم، لقد ضاق صدري بهؤلاء الكسالى والأقزام الذين أجدهم حولي، فخرجت أبحث عن عملاق من الرجال، وبطل من الأبطال، يملأ عيني برجولته وشخصيّته
قلت له: لقد خرجت تقتنص العنقاء. بالله عليك لا تتعب نفسك، وارجع أدراجك؛ فقد أجهدتُ نفسي، وأنضيت ركابي، ونقّبت في البلاد، فـلم أرَ لهذا الكائــن عيناً ولا أثراً.
قال الشيخ: إليك عنّي أيّها الرجل! فأحبُّ شيء إلى نفسي،أعزّه وجوداً، وأبعده منالاً
يقول محمد إقبال:

يرى إقبال أنّ الغوص في بحر الذات ليس لها ساحل ترسو به النفس، وهو أحلى ما في غوص أغوارها، لذلك يخشى الجبناء الغوص في بحرها، لأنّ عيونهم دائماً ترنو إلى الساحل وتتهيّب خوض البحار الهائجة، لكنّ قمة الشجاعة تبقى في أن تغوص في بحر ذاتك.

رأيت الشيخ بالمصباح يسعى له في كلّ ناحية مجال
يقول: مللت أنعاماً وبهما وإنساناً أريد، فهل ينال؟
برمت برفقة خارت قواها برستم أو بحيدر اندمال
فقلنا: ذا محال، قد بحثنا. فقال: ومنيتي هذا المحال

يقرّر إقبال أنّ الحريّة هي فطرة إنسانيّة أصيلة، وهي تحتّم عليه ألا يستقرّ على حال، ولا يرضى المقام على الذلّ والهوان، ويأنف من الخمول والرعاية مع الهمل. ويشبّه الذات الإنسانيّة بالصخرة المتصلّبة، لكن عندما تتحرّك دوافع اكتشاف الذات وإثباتها، فإنّها تفعل في صخرة الذات الإنسانيّة المتصلّبة أكثر ممّا فعلته عصا موسى كليم الله عليه السلام بالصخرة التي انبجست منها اثنتا عشرة عيناً، لتروي عطشى الإسرائيليين.

كذلك بعد الغوص في الذات لاكتشاف كنهها، وبعث روحها، ستتفجر منها الطاقات، وتعود للحضور والفاعليّة من بعد موت وغياب، كأنها صخرة قد انفجرت منها ألف عين من نبع العطاء، وتألّق الروح، وفيض الوجدان، يرسله حياة في الوجود ويسقيه بمائه الزلال ليحله حديقة غناء بعد أن أجدبت ، فيقول:
فطرة الحرّ لا تطيق مقاما فائلف السير دائباً كالنسيم..

ألف عين تشقّ صخرك، فاضرِب بعد غوص في الذات ضرب الكليم.

لكنّ إقبال لا يستغني عن المرشد الذي ينير دربه، ويعيد صياغة روحه، ليبعث فيها روحاً جديدة، ويحيلها من رماد إلى جوهر مصون، فيقول:
صيّر الروميّ طيني جوهرا *** من غباري شاد كوناً آخر
لكنّ طريق ابتعاث الذات -على ما فيها من سعادة أبديّة-لا بدّ أن تعتريها المتاهات، إلى درجة نكران الذات، والصراع النفسيّ الداخليّ أحياناً، لكنّها تفضي بالنهاية -بعد البذل والجهد والمثابرة والبحث-إلى استقرار أبديّ، وصلح مع الذات نقيّ، فيقول:
كم تعثّرت في متاهات ذاتي وكأنّي في أرض ذاتي دخيل
ما بين نفسي من الخصام وبيني سهر دائم وليل طويل

عند ما تبعث الذات وتتحرّر من أصنام العبيد، يستوي لدى الحرّ أن يكون ملكاً صاحب عرش وسلطان، أو أن يكون درويشاً حاسر الرأس، وعندها ستنطلق هذه الذات الصالحة، سواء كانت ذات ملك، أو ذات فقير، كشعاع الشمس لتضيء الوجود والأصقاع، إن كان فتحاً بيد الجنود، وسطوة السلطان، أو كان فتحاً بسحر الحبّ والحنان، لتتهدّم أمامها أسوار القلوب والقلاع، فيقول:
ما بين دروشة ولا ملكيّة فرق إذا صلحت أمور الذات
كلتاهما تغزو الوجود فهذه بيد الجنود، وتلك بالنظرات

يرى إقبال أنّ الغوص في بحر الذات ليس لها ساحل ترسو به النفس، وهو أحلى ما في غوص أغوارها، لذلك يخشى الجبناء الغوص في بحرها، لأنّ عيونهم دائماً ترنو إلى الساحل وتتهيّب خوض البحار الهائجة، لكنّ قمة الشجاعة تبقى في أن تغوص في بحر ذاتك، حتّى تبلغ منها القاع، ثم تعود لتطفو على سطحها، بعد أن أخرجت درّها المكنون… إنّها الذات إن تمعّنت بحر ما له ساحل لخوض جبان
ويقول في مكان آخر:
لا يطيق الجبان لجّة ذات ويغوص الشجاع فيها ويطفو
وقوام الشجاع ليس علوماً تربّ العلم فالشجاعة لطف
ليستِ الخيبة وضياع السؤدد والمجد في فكر إقبال عبارة عن خبط عشواء، أو حظوظ عمياء، أو حظاً تمنعه النجوم عنك، لكنه خور الذات المكبلة بأصفاد الجبن، القابعة في قمقم السكون والراحة، الراضية بحياة البهائم والعجماوات فيقول:
ليس النجوم برغم لعبتها مسؤولة عن هدم أمجادك
بل موت ذاتك بعدما شقيت ما بين قمقمها وأصفادك

لا يزال إقبال يلهب النواحي بشعره وينفخ في صور الكلمات روحاً ليبتعث القيمة الذاتية للأمة من خلال إحياء شخصية أبنائها.. وهو يرى أن الأمة قد هزمة من داخلها عندما استحكم فيها الوهن وقيدت بغل الدنايا فاستسلمت لكل جبار عنيد.

مع ضعف الهمّة والهزيمة النفسيّة التي تتحكّم في إرادة الإنسان، لن ينتفع معها أن يتقلّد السيف المرهف، وربّما يكون حمل السيف ثقيلاً على الجبان، الذي لم يعتد أن يمتشقه في وجه الأعداء، فيقول:
قوّة الذات قوّة الذات سرّ يهب النصر في الحياة لأعزل
خور الذات يجعل السيف عبئاً ويرى في الجبال حبة خردل
يرى إقبال أنّ غاية العبد الحرّ أن يجعل من ذاته حرماً لله، ووقفاً مقدّساً، مصاناً من الدنس والرزايا، فمن شبّت نفسه في مكابدة المعالي، كيف له أن ينحدر إلى الحضيض؟!
سيّد الأحرار عبد حرم الله بذاته فاحفظ الذات وصنها إنّها من عتباته

إنّ قوام ابتعاث الذات المسلمة التي غيّبتها الأثار هي المعرفة الإلهيّة المستنيرة من الوحي، وهنا يشير إقبال إلى غبطة الملائكة للإنسان الأوّل (آدم) حينما علّمه الله تعالى الأسماء كلها وتحدّى به الملائكة:
إنَّ هذه الذات العارفة بحقيقة الألوهيّة لربّها، وحقيقة العبوديّة التي تحرّرها من إصر الآلهة المزعومة، إذا ما اشتعلت في سويدائها جذوة الحب الأزليّ السرمديّ ستتحوّل إلى ما يشبه صور إسرافيل في إحياء أمم وشعوب، وإعادة الروح بعد موت الذات، وستنتشلها من لجّة الظلمة، وهي تسرج درب الحائرين، في ليل التيه، فيقول:
ذاتك فالذات التي تدعمها معرفة يغبطها جبرائيل
وإن أضاف الحبّ عوناً أطلقت في الناس ما يطلق إسرافيل

لا يزال إقبال يلهب النواحي بشعره وينفخ في صور الكلمات روحاً ليبتعث القيمة الذاتية للأمة من خلال إحياء شخصية أبنائها.. وهو يرى أن الأمة قد هزمة من داخلها عندما استحكم فيها الوهن وقيدت بغل الدنايا فاستسلمت لكل جبار عنيد ولم تهزم بقوة عدوها ولا ينقص عدتها وعتادها.. وإن هذه الأمة ستعود بركانا يحرق الطغاة وزلزالاً يهدم عروش الظالمين عندما تعود لاكتشاف ذاتها والمهمة الربانية المنوطة بها من خلافة الله في الأرض وحمل رسالته وتبليغها للعالم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.