شعار قسم مدونات

السعادة المفقودة في عصر الحداثة

blogs السعادة المفقودة

في قصته" أميرة الجبل" يعرض الدكتور نجيب كيلاني صور جمود الحياة المادية وغربته عن الحياة التي تقوم فقط على ماركات السيارات وأنواعها والعقارات ومساحاتها، يبين أنه ألِف الحياة المعنوية رغم أنها ربما تلسعه بعذاباتها ومغامراتها، يصور غربته بأسلوب تجد نفسك تتحد معه لأنه يصف المشترك الإنساني ألا وهو أن للروح متعا تفوق المتع المادية وأن المادة سعادة مزيفة إن اقتصرت عليها الحياة. فرغم أن الإنسان يكون محققا لكثير من المجد المادي إلا أنه يعاني من تصحرٍ روحي.

 

وعلى هذا المنوال أظهر أحد استطلاعات الرأي لجورنال ستريت مدى إحباط الأطباء من مهنتهم وعلق أحدهم أنه يشعر أنه أصبح لعبة رابحة بيد مدراء المستشفيات وقال غيره إنه يشعر بالغثيان والروتين من كثرة رؤية المرضى وآخرون ظنوا أنهم سيعاملون كنبلاء في المجتمع ولكنهم صدموا بقسوة الواقع وهكذا يمضي أحد المقالات ليبين أن هذه المهنة رغم ما تجنيه من أموال إلا أن ستة بالمئة ممن استطلعت آراؤهم يشعرون بالرضا في ممارستهم لمهنة الطب.

توجد الآن ظاهرة طاغية ولا ندري سببها وتتجلى في كثرة الخيرات الدنيوية ولكن قلة من الناس يمتعون بهدوء النفس وسعادة القلب حقيقة تجد القلق مسيطرًا على غالبية من تحدث ومع القلق ملل طاغٍ وانحسار لتلك العلاقات الإنسانية الدافئة مع أنَّ معظم من تحدثهم كانوا يحلمون بالوصول إلى ما هم فيه الآن، وهذا ليس محدودًا بمنطقة دون أخرى أو ببيئة دون سواها فمعظم من ترى يشكو تسارع الأيام وكثرة الأعمال وقلة البركة والحنين إلى بساطة ما كانوا عليه قبل هذه الحداثة التي تصفها العبارة العامية: (خربطت كل شي حلو بحياتنا).

بلدانٌ أوربيةٌ كثيرة ممتعةٌ اليوم بالرفاهية العالية ومع ذلك فإن دراساتٍ كثيرةً تبيِّن أنّ الذين يعانون من الاكتئاب والمرض النفسي في ازديادٍ متتابع، وهو ما يفسر كثرة حالات الانتحار والشذوذ في السلوك في تلك البلدان

يسهل على الإنسان أن يقول القناعة والرضا والتسليم والقدر ولكن واقع هذه الكلمات في حياة البشر هو المشكلة لأنك نادرًا ما تجد تحقق هذه الكلمات في مسيرة الناس الذين ينطقون بهذه الكلمات وربما يكررون معها عبارات من مثل اصنع من الليمون شرابًا حلوًا أو لا تنشر النشارة ولا تبك على الماضي ولك الساعة التي أنت فيها صحيحٌ أنَّ هذه الكلمات تحمل طاقة في تركيبها تصل إلى النفس مباشرة وتجعل الإنسان يميل إليها دون تردد ولكن كم نسبة تحققها في حياة من ينطقها قبل نسبتها في حياة المتلقي لها.

بلدانٌ أوربيةٌ كثيرة ممتعةٌ اليوم بالرفاهية العالية ومع ذلك فإن دراساتٍ كثيرةً تبيِّن أنّ الذين يعانون من الاكتئاب والمرض النفسي في ازديادٍ متتابع، وهو ما يفسر كثرة حالات الانتحار والشذوذ في السلوك في تلك البلدان؛ واسأل متخوِّفًا من الهجرة إليها عن سبب تخوِّفه فيخبرك أنَّ الحياة آمنة وادعة وكل شيء متوفر، لكن الحياة الاجتماعية شبه منعدمة. 

وكلما علا صوت الحداثة ومخترعاتها والأدوات التي تسعى لتأمين سعادة البشر ورفاهيتهم ارتفع صوت الألم والضياع والعزلة من ناحية أخرى والغريب أنَّ من أهم وسائل الحداثة وسائل التواصل الاجتماعي التي ادَّعى من اخترعها أنه يريد أن يوجد مجتمعا يزيل الحواجز بين الناس ويزيد التواصل معهم وكان العكس إذ إن هذه الوسائل زادت العزلة وقرَّبَت البعيد وأبعدت القريب، وأحدث دراسة نفسية تقول إن الأطفال الذين يكثرون الجلوس أمام هذه التقنيات التواصلية الوهمية سيعانون من آلام نفسية كثيرة وسيكونون عرضة لمرض الاكتئاب والعزلة عن المجتمع.

وتوصل الباحثون إلى أنَّ ثمة إدمانًا جديدًا وهو إدمان النت وفضائها؛ ولهذا بدأت بعض الدول بتأسيس مصحات لعلاج مدمني وسائل الرفاهية وفي أحد البرامج الوثائقية نرى مجموعةً من الفتية والشباب يحضرون إلى أحد مراكز مدمني النت وفي هذا المركز يمنع استعمال أي وسيلة تواصل حديثة حتى الهاتف الموجود هو ذلك الهاتف ذو القرص الدائري، فالمركز يسعى إلى فتح باب التواصل مع الطبيعة مع التراب مع رائحة طين المطر مع سهرات المحادثة بين الأصدقاء؛ وهذا ما وصلوا إليه مع المعالَجين؛ إذ إنَّهم خطوة بعد خطوة تصالحوا مع ذواتهم وبدؤوا يرون الحياة بمنظار جديد.

ولهذا نرى حنين الناس إلى ماضيهم فأهل القرى يحنون إلى مصاطبهم العتيقة التي كانت تجمع أهل الحارة وكأس الشاي الذي يعده صاحبُ البيت الملتصقة به المصطبة يتحدثون عن حياتهم مشكلاتهم همومهم وهكذا فلا تستغرب عندما تراهم يحنون إلى ذلك الزمن. وهكذا في المدن يحن كثيرون إلى جلسة المقاهي التي كانت خلوًا من الانفصال الذي يصنعه الجوال وشبكات التواصل الاجتماعي وإلى سهراتِ الصحب في البيوت التي يتبادلون فيها أخبارهم ويتجاذبون أحداث أيامهم.

فقد السعادة في زمننا يرجع إلى تراكم الضخ المتتابع لمعلومات في واقعٍ وهميٍّ يتيه فيها العقل وتتلف تلافيف الدماغ بين خبر مكتوب وصورة وفيديو ومشكلات بين الناس وأحزان وكلمات تثير الشؤم واليأس وكل هذه المعلومات من عالم الوهم

تحن البشرية اليوم إلى كونٍ يعيد إليها تعارفها تواصلها هدوءها فقديمًا كان يقول الشاعر وليل كبحر الموج… وليل بطيء الكواكب والآن أصبح الليل همًّا لا لطوله ولكن لقصره بحيث لا يجد الإنسان مجالا لإكمال متابعته لما يعرض على وسائل التواص الاجتماعي.

الحياة الشاحبة سببها في ديننا إعراض عن ذكر الله "ومَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا" هذا الذكر موجود اليوم ولكنه ليس الذكر الذي ورد في القرآن ذكر مستعجل مرتبط بعجلة الحياة المسرعة الذكر الذي قصده الرب سبحانه هو ذلك الذي يفسح مجالا لاستنشاق جمال خلق الله للتأمل بما خلق ربنا وبما علينا فعله للتأمل بماض لعبرة تحيي القلب في الآن وانفتاح إلى مستقبل يشرح الصدر بطموح كبير.

ففقد السعادة في زمننا يرجع إلى تراكم الضخ المتتابع لمعلومات في واقعٍ وهميٍّ يتيه فيها العقل وتتلف تلافيف الدماغ بين خبر مكتوب وصورة وفيديو ومشكلات بين الناس وأحزان وكلمات تثير الشؤم واليأس وكل هذه المعلومات من عالم الوهم الذي لا يتصل بالواقع ولكنه يثير كل عواطف الإنسان ويوجه تفكيره إلى اتجاهات مغايرة للواقع الحقيقي الذي يعيش فيه.

في فيلمٍ وثائقي عرضته الجزيرة من مدة تلتقي المذيعة في جزيرة بريطانية محام كان يعمل في لندن وترينا في الصورة مجموعة من الأغنام يسرح بها وعند التقائه قال نحن بحاجة بعد العمل إلى الراحة والراحة عند الذين عرفوا الحياة ليست في ناطحات سحاب ولا بكثرة الأجهزة التي تحيط بالمرء وإنما هي بالطبيعة التي خلقها الله؛ ولذلك وجد هذا المحامي أن السعادة في هذا الاتحاد مع طبيعة خلقها الله، ولا تستغرب عندما يقال إن هذه الجزيرة هي من أسعد مناطق بريطانية ووضعت في رأس الأماكن التي تحقق السعادة في بريطانيا.

بيل غيتس الذي اخترع هذه النافذة التي ترينا العالم الوهمي في أكثر من حديث بيَّن أنه لا يسمح لأولاده أن يتركوا لأنفسهم الحبل على غاربه في التعامل مع الحاسوب (الكمبيوتر) بل اتفق مع أمهم على تخصيص زمن محدد لهذا الجهاز وباقي الوقت لحياتهم الطبيعية؛ وذلك كي يعيشوا حياة طبيعية لا تبتعد عن الفطرة، وهكذا فإن عالم اليوم المضطرب بما يولده من أجهزة الحداثة والواقع الوهمي يدفعنا هذا العالم إلى أن ندق ناقوس الخطر وأن نبدأ بإعادة أولادنا إلى طبيعتهم أن نتركهم يبنون علاقات مجتمعية واقعية وحقيقية وأن نخصص لأنفسنا فسحة مع الطبيعة مع خلق الخالق وكفانا غربة عن فطرتنا فأنسفنا تستحق التكريم وخلق الله ودنياه التي خلقها أجمل تكريم لنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.