شعار قسم مدونات

الحب فيلسوف أعمى

blogs الحب

يستشف الناظر في قصص الحب التي خلدها التاريخ العربي، مجموعة من العبر والعظات، ذلك أن العاشقين الذين نسجت حولهم الحكايات، ابتلوا ابتلاء شديدا من جراء لظى الحب وجذوة العشق. وقد خلفت قصص الحب التي عاشها العشاق آثارا أدبية جميلة تحكي عن فعل الحب في النفوس وآثره في القلوب، وتبين بما لا يدع مجالا للشك أن السقوط في مغبّة الحب يعمل على تغيير حال الإنسان، ويحمله على فعل بعض الأمور والأشياء.

يعِنّ للناظر في قصص هؤلاء العشاق ومثلات الذين خلوا من قبلهم، الأثر الذي يمكن أن يخلّفه الحب في نفسية من تخطفه وأسره، حتى يجنح بصاحبه إلى فعل أي شيء من أجل نيل حب المرأة التي تعشقها والظفر بها؛ فبين الجنون وإيثار الحب على الصداقة واعتزال الأهل من أجل المحبوبة، والتعرض للأخطار فداء للعشق، يبرز الوقع الذي يمكن أن يحدثه الحب في مكنونات من خَلَبَهمْ عقولهم وملك عليهم نفوسهم.

الحب صِنْوٌ للجنون وقرين له
لا أدل على الجنون الذي يخلقه الحب في نفسية صاحبه من قصة مجنون ليلى "قيس بن الملوح"، ذلك أن قيسا عشق ابنة عمه ليلى منذ الصبا ووقر حبها في وجدانه، ففاضت نفسه هياما بليلى، ولم يجد وسيلة أفضل للتعبير عن ما اعتلج في نفسه من قول الشعر، فتفتقت قريحته في النظم تغزلا بابنة عمه وتشبيبا بها. وقد كان قيس ينشد من خلال شعره الإفصاح عما أحس به لابنه عمه، فجاء شعره بذلك يشف عن ألوان من الانفعالات وضروب من الأحاسيس التي شعر بها تجاه ليلى.

 

كثيرا ما كان الحب سببا في انقلاب الصداقة المتأصلة بين شخصين إلى عداوة خالدة، نتيجة حب أحدهما لامرأة تعلق الآخر بعشقها، فيمنع الحب استمرار هذه الصداقة ويوطد مكانها عداوة متأصلة لا تمَّحِي آثارها ولا تزول أماراتها على مر الأيام

وجريا على سنن العرب في الامتناع عن تزويج بناتها ممن شببوا بهن في شعرهم، أبى أهل ليلى تزويجها لقيس، فانسرب الأسف إلى ذات الرجل، الأمر الذي أضفى مسحة من الحزن على حياته، بلغ به حد الجنون نتيجة ولعه الشديد وحبه الكبير لليلى، فكان كلما سمع اسمها وقع مغشيا عليه، بل وحاول أن يلقي بنفسه من أعلى الجبل للتخلص من حرقة الوجد والحب الذي أصابه، ويحكى أنه لَقِيَهُ رجلٌ وهو مجرد من ثيابه، يلعب بالتراب، فقال له: الحب صيَّركَ إلى ما أرى؟ قال: نعم، وسينتهي بي ما إلى ذلك سبيل.

ولم يؤد تعاقب الأيام وتوالي الليالي إلى زوال حرقتها من قلبه، فقد كانت ليلى ذكرى هاجعة لا تعزب عن بال الرجل، فكانت بذلك سبب معاناته وجنونه، وقد كان حب ليلى كذلك باعث تفننه في نظم الشعر ونسج خيوط الجمال والإبداع في روائعه. وانتهى المطاف بالمجنون في الصحراء تائها إلى أن اخترمه الموت كمدا على حب ليلى، فكان الحب سببا في معاناته وأفسد عليه حياته، هذه الحياة التي اعتبرها المجنون بدون جدوى إن لم يكن الحب عمادها وعمودها، وهو القائل:

وَلاَ خَيْرَ فِي الدُّنْيَا إِذَا أَنْتَ لَمْ تَزُرْ حَبِيبًا وَلَمْ يَطْرَبْ إِلَيْكَ حَبِيبُ

الحب سبب في اضطرام غلالة العداوة وتلاشي أواصر الصداقة
كثيرا ما كان الحب سببا في انقلاب الصداقة المتأصلة بين شخصين إلى عداوة خالدة، نتيجة حب أحدهما لامرأة تعلق الآخر بعشقها، فيمنع الحب استمرار هذه الصداقة ويوطد مكانها عداوة متأصلة لا تمَّحِي آثارها ولا تزول أماراتها على مر الأيام، ولعل من أبرز النماذج الشاهدة على فعل الحب في الأصدقاء، قصة ابن زيدون الذي أوغر في صدره ما رآه من صديقه ابن عبدوس من ميل وهيام بولادة بنت المستكفي، والتي كان ابن زيدون يحبها ويضمر لها العشق والهيام، فناء أديب الأندلس بشعور حزين واعتملت في قلبه نفثات حسرة وغضب على فعل صديقه، فانبثقت بين الصديقين العداوة وتنامت.

 

وردا على فعل ابن عبدوس أنشأ ابن زيدون قصيدة يعاتب فيها صديقه على صنيعه، يقول فيها: 

أَثَرتَ هِزَبرَ الشَرى إِذ رَبَض وَنَــبَّــهتَـــهُ إِذ هَــــدا فَـــاغــتَــمَــــض
حَـــذارِ حَــــذارِ فَــإِنَّ الكَــريــــــمَ إِذا ســيمَ خَــسفــاً أَبى فَامــتَــعَـــض
أَبـــا عـــامِرٍ أَيـنَ ذاكَ الوَفاءُ إِذِ الدَهرُ وَسنانُ وَالعَيشُ غَــــضّ
وَأَيــنَ الَّـــذي كُنتَ تَعتَدُّ مِن مُــصــادَقَــتي الــواجِــبَ المُــفـتَــرَض
يَعِـــزُّ اعتِصارُ الفَتى وارِداً إِذا البارِدُ العَذبُ أَهدى الجَرَض
أَبـــا عـــامِـــرٍ عَــــثرَةً فاستَقِل لِـــتُــبــرِمَ مِـــن وُدِّنا مــــا انــتَـــفَــــض
في سبيل الحب تهون الأهوال وتنكسف الأخطار

عادة ما يضطر المرء في الحياة إلى التضحية من أجل الحصول على مطامحه وأهدافه، وفي مضمار الحب يبذل المحب التضحيات الجسام في سبيل من يحب ويعشق، تختلف التضحيات وتتنوع، ويكون الهاجس الذي يُساورُ المُحبَّ هو الحفاظ على حبه والظفر بقلب من أسَرَه ومَلَكَه، ولأجل الإبقاء على شُعلة الحب متوهجة ومتوقدة فإن العاشق لا يألوا جهدا في الوفاء بميثاق الحب والإخلاص له، والبرهنة على صدق العاطفة المتأججة التي يستشعرها إزاء الطرف الآخر.

 

وفي هذا المسار تندرج جملة من القصص التي خلدها التاريخ، ومنها قصة بشر بن عوانة الذي عشق ابنة عمه فاطمة، وأحبها حبا كلفه حياته، فعندما تقدم لخطبتها اشترط عليه والدها مئة ناقة، وألزمه باقتفاء طريق يوجد فيها أسد اسمه داد وحية تدعى شجاع، فسلك بشر تلك الطريق وواجه الأسد، تعبيرا منه عن استعداده للموت في سبيل الوصول إلى قلب ابنة عمه والظفر بها، فدفع الحب بشرا إلى الارتماء في أحضان الموت لأجل الوفاء بعهد الحب ولحمة العشق، وهو القائل لحظة قتاله الأسد:

أَفَاطِمُ لَوْ شَهِدْتِ بِبِطْنِ خَدٍّ وَقَدْ لاَقَى الهِزَبْرُ أَخَاكِ بِشْرا.


كثيرة هي التضحيات في سبيل الحب قائمة، بل إنها تطورت وتنوعت أشكالها وألوانها، بما يبين بجلاء أن الحب أعمى لا يترك لصاحبه فرصة إعمال عقله، يغيب العقل ويحل محله القلب الذي تناهشته لوعة العشق

وفي قصة مماثلة وفي سبيل التضحية من أجل الحب، مِنَ العشاق مَن اعتزل أهله وعشيرته بعدما تألب عليه أهل المحبوبة وأهدروا دمه، وخير مثال على ذلك جميل الذي أحب ابنة عمه بثينة، ونسجا على منوال العرب في الاعتراض على تزويج من يشبب ببناتهم في شعره، أبى أهل بثينة تزويجها من جميل، وزوجوها في المقابل برجل غيره، وأوفدوا من يتعقبه ويقتله، فتاه العاشق هربا من القوم معرضا نفسه للأخطار من أجل الوصول إلى ابنة عمه، وهو القائل:

فيا ويحَ نفسي حسبُ نــفـــسي الـــذي بها ويا ويحَ أهلي ما أصيــــب بــــه أهــلي
أرانــيّ لا ألــــــقَـــى بــُثــيــنــــة َ مــــــرة ً من الدهرِ إلاّ خائفاً أو عــــلى رَحْـــــل
أبـــيــــتُ مــــع الــهـــــلاك ضــيـــفاً لأهــلها وأهـلي قـريبٌ مـــوســعـونَ ذوو فضلِ
فــــإن وُجـــدَتْ نَـــعْــــلٌ بــــأرضٍ مَـــضِلّة من الأرضِ يومــاً فاعــــلمي أنـها نعلي


في هذه النماذج وغيرها يتراءى الوقع الذي يفعله الحب فيمن تأشب في نفسيته، واعتمل في دواخله، ويبرز كذلك أن صوت التضحية في سبيل الحب لا يكاد يخفت في هذه القصص ولا تخبو حدته، ويبين أن الحب إذا أحكم وثاقه بتلابيب قلب الإنسان رجلا كان أو امرأة حمله على فعل أي شيء من أجل من يحب. ما تزال هذه التضحيات في الواقع قائمة، بل إنها تطورت وتنوعت أشكالها وألوانها، بما يبين بجلاء أن الحب أعمى لا يترك لصاحبه فرصة إعمال عقله، يغيب العقل ويحل محله القلب الذي تناهشته لوعة العشق، ليهمس في أذن صاحبه قائلا: "الواقع في بحر الحب، غالبا ما يكتوي بناره، فاحذر أن تصيبك نفحة من نفحاته وتصطلي بلظاه وحرقته".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.